Friday, October 26, 2007

الإنتاج الحضاري والسياقات العربية الراهنة

X

تسعى الدول الحديثة العهد (بالاستقلال) السياسي , تسعى لبناء متكامل وسريع للحاق بالدول التي استقلت منذ فترة طويلة , وهي في سعيها الحثيث تتخذ العديد من الخطوات والإجراءات التي تخوّلها للدخول في هذا العصر. تحاول هذه الورقة البحث في السياقات الراهنة الرئيسية ومدى ملائمتها لهذه الخطوات الساعية لمواكبة الدول الأخرى.

في البداية لا بد من الاعتراف بصعوبة وتشعب وتداخل هذا الموضوع مع مواضيع أخرى كثيرة, سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية.

مقدمة لا بد منها:-

ثمة هاجس مسيطر على العقول والأذهان منذ فترة طويلة, ألا وهو هاجس التقدم والإنتاج الحضاري, ولتحقيق هذا التقدم تم طرح الكثير من النقاط والمواضيع الممكنة , فهناك الفكر القومي والفكر الديني والفكر الماركسي والفكر العلماني والفكر التقني , وغيره الكثير من الأطروحات والفرضيات التي تم طرحها للدخول في التقدم المعاصر.

ولتحقيق هذا التقدم تم تشخيص الأزمات التي مرت بها (الأمة العربية ) وما تزال, منذ فترة طويلة ,على أوجه ٍ متعددة, وطرق متباينة, فهناك من يقول بأن البعد عن النهج النبوي والراشدي(نسبة ً للخلفاء الراشدين) , ودخول الدولة الإسلامية إلى مرحلة (الملك العضوض) , كما يقول البعض , كان من أهم الأسباب المؤدية للسكون والتخلف فيما يختص بهذه (الأمة العربية) , فيما يرى البعض أن الاستبداد السياسي , والتفّرد بالرأي, هو احد أهم الأسباب إن لم يكن أهمها على الإطلاق في تفاقم الوضع, كما يقول (عبد الرحمن الكواكبي) , فيما يرى أطراف آخرون , بأن البعد عن التفكير الفلسفي والتفكير العلمي من أهم الأسباب , كما يرى آخرون بأن توقف الاستعارة المعرفية من الحضارات الأخرى أو كما تسمى بالترجمة , لها دور كبير في هذه الأوضاع المحرجة , ذلك أن الاستعارة المعرفية من الحضارات الأخرى لها دور كبير في اغناء الحضارات المستعيرة بالأفكار والألفاظ والمدارس المعرفية وغيرها ,في حين يرى البعض بأن تهميش دور المرأة واختزال هذا الدور- بوصفها نصف المجتمع- إلى "شيء" مكمّل , وملحق بقائمة الرجل الطويلة, هو من أهم الأسباب في استمرار هذه الأزمة وتواصلها, فيما يرى آخرون بأن نظام التعليم بمجمله والعنصرية الدينية والانغلاق المعرفي, والبعد عن التحديث المتواصل لهذه المناهج من أهم الأسباب لهذا الوضع, وهناك الكثير غيرها.

اتجه آخرون لنماذج حضارية معاصرة , تعرضت لأوضاع ٍ مشابهه للأوضاع التي مرت بها(الأمة العربية) , ولكنها لأسباب كثيرة تخطت هذه العوائق وتجاوزت التحديات , ولذلك أصبحت نماذج من الممكن بل ومن الضروري الاستفادة من تجاربها التاريخية , بغرض الخروج من ذيل القائمة (الحضارية) .في قائمة المتصدرين من هذه النماذج نجد النموذج الياباني , كما طرحه المؤرخ والباحث المعاصر( مسعود ضاهر).

اتفق الجميع تقريبا ً برغم اختلافهم الشديد وتباينهم الواضح , اتفقوا على وجود أزمة, واختلفوا في المقابل – وهذا شيء طبيعي- حول أسباب هذه الأزمة وبالتالي حول كيفية معالجتها , وهي في الواقع ليست أزمة واحدة , بل هي أزمات (بالجمع), أصبحت على شكل طبقات متصلبة مع مرور الزمن , حتى إن التفريق بين السبب والنتيجة أصبح صعبا ً للغاية إن لم يكن مستحيلاً. في المقابل لم تتوقف هذه المحاولات المتعددة للخروج من هذه الأزمة, لم تتوقف عن الظهور تحت مسميات كثيرة, تختلف هذه المسميات حسب المرجعية المعرفية التي جاءت منها هذه المحاولات , نجد من بينها وربما أبرزها: الإسلام هو الحل , والعلمانية هي الحل , الوحدة الاقتصادية العربية , التكتلات الإقليمية (مجلس التعاون الخليجي), جامعة الدول العربية , إسلام بلا مذاهب , التقريب بين المذاهب ...وغيرها الكثير.

تذهب بعض الآراء إلى أن وجوه الأزمة العربية متعددة ومتنوعة, وهي لا تقتصر على وجه ٍ دون الآخر , فهي(الأزمة) تبدأ من الماضي ومن جذور الماضي البعيد, ذلك الماضي الذهبي حسب تعبيرات البعض,الذي لم ولن يعود مجددا على الأقل واقعيا ً , ولكنه من المحتمل أن يعود ذهنيا ً فقط في نظر الذين يشعرون بالحنين الجارف له, وهي متغلغلة في عقلية الكائن الراهن, الذي يعيش في الألفية الثالثة, فهذا الكائن يفكر ويرى ويحس ويتعامل ويرسل ويستقبل ويستنتج ويتوقع , ويمارس جميع آليات الحياة كما كانت تمارس في الماضي ,متقمصا ً بذلك شخصية وأفكار من سبقوه.

لذلك جاء الحاضر مشابها ً إن لم نقل مطابقا ً من حيث العمق - طبعا -ً للماضي البعيد, فهذا الحاضر لا يختلف عن الماضي إلا من حيث البنية الشكلية فقط, لقد حدثت عملية إبدال شيء محل شيء آخر , أو استعارة شيء محل آخر مختلف , فمازالت العقلية العربية تتعامل بمنطق "الآخر" تجاه المختلف عنها. الآخر هنا بمعنى النقيض والضد. فالعقلية المذهبية والقبلية والعنصرية العرقية, وغيرها هي ما يحرّك مخيال الفاعل الاجتماعي في الفضاءات المصطلح عليها بأنها عربية. لا يكف الماضي عن التلّون والتخفي, في ثنايا الحاضر وربما في المستقبل أيضا ًً.

شروط الإنتاج الحضاري:-

ثمة عوامل وأسباب عديدة, مهمة وضرورية ولا يمكن تهميشها أو الاستغناء عنها أو حتى تأجيلها لفترات ٍ زمنية ٍ قادمة, إذا قرر أي كيان ٍ سياسي الانتقال من مرحلة الوجود والاستهلاك إلى المرحلة الأكثر أهمية ً وتعقيدا ً وهي مرحلة الحضور والإنتاج الحضاري. لا يمكن أن تزدهر المجتمعات إلا بتوافر منظومة مترابطة من العوامل و الشروط, من أهمها: الحرية. نقصد بها الحرية المنظمة, أي تلك الحرية المسؤولة وهي في ذلك تختلف كثيرا عن الفوضى , وهي في المقابل خاضعة لمنطق المجتمع المدني. تتسع الحرية لتشمل حرية الرأي و المعتقد وإمكانية التعبير عن هذه القضايا بما يحفظ للمختلفين إمكانية التعبير عن هذا الاختلاف بكل انفتاح وتعدد. ترتبط حرية الرأي والمعتقد ارتباطا ً كبيرا بما يسمى بالمجتمع المدني المرتبط أيضا بالضرورة بمفهوم الديمقراطية. الحرية ليست شعارا ً سحريا ً يحول العالم إلى فردوس, بل هي منظومة معقدة, وشبكة مترابطة مع الكثير من المفاهيم والرؤى. ومعنى ذلك إنها يجب أن تتجذر أولا ً في عمق ( الأنظمة التاريخية ) الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية. فالرأي الواحد في جميع المجالات لا يؤدي إلا إلى شيوع نمط واحد في الرؤية والتفكير و هذا يؤدي بالضرورة إلى عدم وجود تنوع في المجالات الحياتية المختلفة سواء ً أكانت فكرية أم دينية أو غيرها. ثمة عوامل وشروط , بإمكاننا اعتبارها الأرضية الخصبة للحرية وازدهارها, من أهمها الوعي الفردي , و السياقات والشروط الاقتصادية.

لا يمكن أن نتصور إن تمارس الحرية بدون وعي فردي أو جماعي في ما يتعلق بالقوانين المعطاة من قبل السلطة السياسية.فالحرية هي الوعي بالحدود الموضوعة على التصرف , كما يقول عبدالله العروي. فانعدام أو ضمور هذا الوعي يعني من ضمن أشياء كثيرة, انعدام أو ضمور الأفق السياسي للفرد , الذي- والحالة هذه- من المفترض انه يتمتع بحس ٍ سياسي ورؤية واسعة نوعا ً ما وذلك تجنبا ً للعواقب التي من الممكن أن تعطّل من فاعليته أو تحدها.

تقوم الحرية على تصورات, لذلك نجدها تختلف من شخص ٍ لآخر, حسب الخلفية المعرفية والتصورية والزمنية للمتحدث. قد تكون إجابة المرأة المنغمسة في الفضاءات العربية بأن الحرية هي المساواة مع الرجل من حيث الحقوق والواجبات وتبوأ المناصب السياسية في حين أن من المحتمل إن ثمة إجابة مختلفة تأتي من امرأة تنتمي لفضاءات معرفية مغايرة. نجد نفس الآلية في ما يخص "المثقف" فهو يطالب في الفضاءات العربية بهامش ٍ أوسع وفضاء أرحب من الحرية في الكتابة والتعبير وإثارة الأسئلة , بينما نجد المثقف في فضاءات اخرى , ونقصد هنا بالتحديد الفضاءات الأوروبية تحديدا ُ, يمارس هذه الحرية بدون الحاجة للمطالبة بها والإلحاح عليها. والسؤال هو لماذا ؟ كيف وصلت بعض الفضاءات لمستوى متقدم , مقارنة مع المستوى العربي بالطبع , في حين أن بعض المستويات أكثر تأخرا ً من المستوى العربي. كيف حصل هذا التفاوت ؟ هل لذلك علاقة بالتاريخ؟ أم بالنصوص الفاعلة (القانونية والدينية) ؟ أم أن كل شيء مرتهن بالكائن البشري ومدى قدرته على الوصول إلى ما يريد ؟

لا يتم استيراد الوعي مثلما هو الحال حينما يتم استيراد ألآت الإنتاج في المصانع والمعامل, بل هو مرتهن بجدلية ٍ عميقة , وبمجموعة ٍ من التجارب والأسئلة التي تطرحها الذات على نفسها وتاريخها و حاضرها , حتى انه في بعض الأحيان من الممكن أن تصبح" الذات عينها كآخر ", إنها تعني في هذا السياق بأنه من الممكن إن تصبح الذات من المراجعات التي تطرحها على العناصر الثقافية والتاريخية لماضيها, إن تصبح اقرب ما يكون للآخر: المضاد والنقيض. وهذه المرحلة , مرحلة طرح الأسئلة على الذات والحاضر ومسائلة التاريخ بكل مراحله, هي من أكثر المراحل أهمية ً وحسما ً وتعقيدا ً فيما يتعلق بأي مجموعة بشرية تحاول الدخول في مراحل إنتاجية ومعرفية قادمة. اجترار القديم وإعادة تكراره بدون طرح أي أسئلة عليه, والقول بأنه لا يخضع لكل هذا التقدم المعرفي والمنهجي هو في حد ذاته عجز متراكم , يتصل بالذات المفترض إنها تطرح تساؤلات محرجة وحادة, على كل ما يتعلق بالقديم الذي يساهم في تشكيل المستقبل عن طريق الحاضر وتراكماته.

يرتبط الوعي بالأساس بالعديد من المستويات أو البنى التحتية , كما هي مصطلحات الماركسية, فهو (الوعي) , من المحتمل أن يكون انعكاسا ً أو امتدادا ً للمستويات الاجتماعية أو الاقتصادية.اختلفت الآراء حول أي العوامل أكثر تأثيرا على وعي الفرد , وأيها الأقل.

ارتبط الوعي بالعامل الاقتصادي ارتباطا ً كبيرا ً, فهو عامل مهم ومؤثر في توجيه اهتمامات وسلوكيات الأشخاص.
لقد ساهمت العوامل الاقتصادية الجيدة في اغلب الأحيان في استقرار الجماعات والأفراد , مما جعل النتائج الايجابية لهذا الاستقرار تساهم وبشكل ٍ واضح في ازدهار هذه المجتمعات أو تلك, بل وساهمت في نشوء المدينة أو الحاضرة حسب التعبير القديم. ونشأة التجمعات الحضرية واستقرارها مرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بالعديد من العوامل والاشتراطات الاقتصادية والثقافية والفكرية والأمنية. فإذا رجعنا للحواضر الكبيرة والمؤثرة في التاريخ, ونقصد هنا الحاضرة اليونانية في عصر ازدهار الفلسفة الإغريقية, والحاضرة العربية في عصر آل بويه أو في جيل مسكوية , أو في بداية عصر التنوير الأوروبي , نجد أن الجانب الاقتصادي ساهم بشكل كبير في الاهتمام بالكائن البشري وما نتج عن ذلك من علوم ومعارف ومن تنوع واختلاف كان له الدور الأكبر في إثراء الكائن البشري وتقبله للأفكار المختلفة وتلاقحها. فمن المتعذر على الكائن البشري تقبل الاختلاف والغيرية في ما يتعلق بالأفكار التي احتضنها واعتقد بها, إذا كانت العوامل الاقتصادية غير مواتية. كيف للكائن البشري أن يقبل بالاختلاف إذا كان الفقر والجوع يحاصره من جميع الجهات ؟ كيف للمجتمع أن يستمع أو يستوعب الأفكار الجديدة عليه إذا كان إفراده يتضورون جوعا ً, ولا يرون من الحياة إلا كيف يضاعفون الثروات قبل الأفكار, والحسابات المصرفية قبل بحثهم عن ما يرسّخ اختلافهم, ويوطّد اجتماعهم ؟ كيف لهذا الكائن المحاصر ماليا ً واقتصاديا ً أن يفكر في إنتاج ٍ حضاري وهو يتعرّض لأزمات خانقه؟

بإمكاننا القول بأن الاستقرار الاقتصادي هو المقدمة لكل الأنشطة المرتبطة بالكائن البشري , من إبداع معرفي, وإنتاج صناعي , وازدهار اجتماعي. ف بدون هذا الاستقرار لا يستطيع الكائن البشري الاستيطان, وبالتالي يصبح من المتعذر عليه أن يخلق أنظمة سياسية وفكرية واجتماعية, لأن هذه الأنظمة تحتاج لتوطين وترسيخ في عقول وأذهان وسلوكيات الأشخاص الفاعلين. لا تنحصر هذه الرؤية على المدن والحواضر القديمة بل هي متجذرة في السياقات الراهنة أيضا ً, بل إن هذه الرؤية تشمل حتى السياقات القادمة.

نختتم هذه الورقة بالسؤال المعروفة إجابته سلفا ً: هل الشروط السابقة للإنتاج الحضاري متوافرة في السياقات العربية الراهنة ؟ من الإجحاف الكبير أن تأتي الإجابة تقليدية, ف السياقات العربية الراهنة ليست متشابهة, ولكل سياق خصوصياته وميزات ينفرد بها عن بقية السياقات. لذلك ف كل سياق بحاجة ٍ لدراسة ٍ معمقة تشمل التاريخ والحاضر بكل تنويعاته وأطيافه. في المقابل نستطيع القول بأن الراهن العربي لا يختلف كثيرا ً برغم تعدد السياقات مما يعطينا إمكانية القول بأن السياقات العربية الراهنة مستهلكة في كل المجالات والنواحي , وتعيش حالة من التبعية الشاملة, بالإضافة لذلك فهي تساهم بطرق ٍ متعددة في إنتاج العوائق لكل إنتاج حضاري , سواء ً هذه العوائق فكرية أو اقتصادية أو صناعية. لا يعني هذا بأي حال ٍ من الأحوال أن الإمكانيات المستقبلية للإنتاج الحضاري في السياقات العربية الراهنة منعدمة أو لا يمكن إعادة إنتاجها, ف هناك شواهد عديدة, وإشارات مختلفة, توضح بأن هناك إمكانيات كامنة تحتاج لما يجعلها تنتقل من مرحلة الإنتاج بالقوة (الفكرة) إلى مرحلة الإنتاج بالفعل (التطبيق), بحسب تعبير الفلاسفة العرب القدماء. ولكن مرحلة الإنتاج بالفعل تحتاج ل جملةٍ من الاشتراطات والعوامل المتعددة, وليس إلى شرط ٍ واحد اعزل وهو الإرادة الشخصية أو الجهد الذاتي, بل لا بد من وجود مؤسسات مدنية تتبنى - على الأقل في المراحل الأولى - كل هذه المبادرات والجهود الفردية, والتي بدورها تساهم ولو بجزء بسيط في إنعاش روح الابتكار الفردي والجماعي.

Wednesday, October 24, 2007

التراجع المعرفي ونتائجه

ثمة ظاهرة ملفتة للنظر, وباعثة على التأمل والبحث, ألا وهي ظاهرة التراجع المعرفي, التي نشهدها حاليا ً , تحاول هذه الورقة أن تتطرق لهذه الظاهرة , وانعكاساتها المتعددة على الواقع المجتمعي المتعدد.

في البداية , ينبغي القول إن هذه الظاهرة (ظاهرة التراجع المعرفي) , لا تأتي منعزلة , أو منفردة , بل إنها تأتي كظاهرة ٍ مطرّده. فكلما برزت هذه الظاهرة ارتفعت حدة الانغلاق والتعصب, والعكس. تتجلى هذه الظاهرة, في عدة مجالات, بعضها مباشر, وبعضها غير مباشر. وهي لا تتجلى بشكل ٍ مظهري واضح, بل إنها تأخذ أبعادا ً دلالية, ورمزية, غير واضحة. ف التراجع المعرفي لا يمكن قياسه, أو وزنه, أو محاولة إحصاءه. فالمعرفة تختلف بشكل كامل عن النشاطات الإحصائية والحسابية , التي تهدف الى جمع البيانات, والمعلومات, انها (المعرفة) , تهدف الى تكوين قاعدة واسعة للرؤية , وأسس متعددة للقراءات النصية او الواقعية.
من الممكن تقسيم الرؤية المعرفية الى قسمين: رؤية معرفية منفتحة , ورؤية معرفية منغلقة.

الرؤية المنفتحة: هي تلك الرؤية التي ترى في النسيج المعرفي والمجتمعي الشامل, أساس الوجود وسبب استمرار يته, والمنطلق الأساسي للتعامل معه.

الرؤية المنغلقة: هي تلك الرؤية التي تنحصر في مجتمع معين , أو نظام معرفي خاص , تصدر عن ذلك النظام المعرفي فقط , ولا تقبل بالإضافات المعرفية الأخرى.

على المستوى التعليمي العام والأكاديمي المحلي: نلاحظ أن هناك فرعا ً معرفيا ً, بالغا ً في الأهمية من الناحية المعرفية, قد تم إلغائه من النظام التعليمي الأكاديمي, سواء التعليم الجامعي أو التعليم العام. نقصد بذلك الفلسفة ," ف بالرغم من إنها ظلت ممثلة تمثيلا نسبيا جيدا من خلال قسم الفلسفة والاجتماع مع افتتاح جامعة السلطان قابوس في أواخر الثمانينيات[1] "، إلا انه " سرعان ما تم تجميد قسم الفلسفة وإيقاف الالتحاق به، واقتصر دوره على تدريس بضع مواد فلسفية "[2] , وربما التراجع الأكبر من ذلك " إلغاء تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية "[3].

من المهم التذكير في هذا السياق, بنقطة ٍ بالغة الأهمية, ألا وهي: بأن تدريس الفلسفة, له معان ٍ متعددة, من أهمها تدريس آليات تنمية واكتساب التفكير الحر, والنقدي. وإذا توغلنا أكثر في هذا السياق أصبح بإمكاننا القول بأن المخرجات التعليمية بمستوييها التعليميين : العام والجامعي , في حاجة ماسه جدا , لاكتساب هذا النوع من الضرورات الفكرية. فليس الهدف من هذه الجهود التعليمية الرائعة, أن يتم ملء سوق العمل بها (بالرغم من أهمية هذه النقطة) , إلا إن الهدف المستقبلي هو المساهمة في إنتاج مجتمع معرفي, يقوم على أسس وركائز عميقة , يهدف إلى إرساء اقكار, وقيم عقلية, غير متوفرة على الأقل في المجتمع القائم.
في الفترة الأخيرة ازدادت الدعوات, إلى ضرورة تعديل المناهج الدراسية, في المرحلة الابتدائية. في خضم هذه الدعوات المتزايدة , من جميع الاتجاهات , وبنوايا مختلفة, لم نسمع ولو في توصية غير جادة, إلى ضرورة تدريس الفلسفة, كمنهج ٍ مستقل , له ما للمعارف الأخرى من استقلالية , وكادر تعليمي, وبقية الإمكانيات.
لسنا في حاجة هنا, إلى تكرار ما قيل في دراسات ٍ سابقة, عن أهمية الفلسفة, في تطور الحضارات والأمم, ودورها في انتقالها من مرحلة الاستقبال إلى وضعية الإرسال.

لا احد ينكر الدور الهام للعلوم التطبيقية المتعددة , و النتائج المستقبلية للاهتمام بها, ولكن هذا الاهتمام لن يتطور إلى مرحلة الإنتاج الفعلي للعلوم والمفاهيم, ما لم تصاحبه حركة فلسفية تنظيرية, تركّز على البنى الفلسفية والفكرية الموّلدة لهذا الصنف من العلوم , وكيفية البحث والتساؤل المنهجي, عن كل ما يحيط بالموضوع المراد بحثه.

لم يكن هذا التراجع المعرفي على المستوى التعليمي بشقيه : العام والجامعي , لم يكن بلا نتائج , فمعظم أسباب النزعة الاستهلاكية التي طالت كل شيء تقريبا, بما فيها الأفكار الضرورية للكائن البشري, من رؤى حرة تعلي من قيمة الكائن البشري , وتحتفي بإنجازاته الفلسفية والفكرية والمعرفية , لم تكن هذا النزعات الاستهلاكية إلا نتيجة من ضمن نتائج متعددة , لهذا النوع من التراجع المعرفي , والذي في واقع الأمر , نحن بحاجة ٍ ماسه لاستبداله, بنوع ٍ من التقدم المعرفي المصاحب, للتقدم العمراني , والاستهلاكي .

من النتائج الملازمة أيضا ً , لهذا التراجع المعرفي , وهو تراجع ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار بشكل ٍ جدّي, هو هذا الانغلاق , والتقوقع حول الذات, والتوهّم بأن كل شيء تمتلكه الذات , ولا حاجة لها للتفكير والبحث إلا داخل النطاق المعروف والمرسوم سلفا ً.

من الضروري هنا , الحديث عن ايجابيات التقدم المعرفي المصاحب للتقدم العمراني والسكاني والتقني , وذلك كضرورة حياتيه أكثر من النظر لهذا التقدم على انه ترف من الممكن التغاضي عنه, أو الاستغناء عنه.
يتم الحديث هنا , عن التقدم المعرفي كضرورة , من ضروريات الحياة المعاصرة . هذه الحياة المليئة بالتعقيد, والاستيراد المتعدد, سواء النظري, أم التطبيقي.

ثمة وجه آخر لهذا التراجع المعرفي الرسمي, ألا وهو الغياب النهائي والكامل على المستوى الغير رسمي, فيما يتعلق بإنشاء مراكز أو معاهد متخصصة فقط لتنمية التفكير الفلسفي والعقلاني. قد يتعلق الأمر بالربحية, في حين أن النظرة الواقعية المفترضة , وليست المثالية , تقتضي من القطاعين الرسمي والغير رسمي , أن يتم النظر في البدء , كخطوة ٍ أولى للإنتاج الحضاري المأمول , والمنتظر , أن تتغير زاوية الرؤية , من الربح السريع , والعاجل , إلى زاوية ٍ أخرى أكثر انفتاحا ً , أو انفراجا ً, زاوية النتائج البعيدة المدى.

عود ٌ على بدء , ينبغي القول أن كل ما يتلقاه الكائن البشري بشكل ٍ عام , من معلومات ٍ وبيانات وأرقام , سيبقى حبيس ذاكرته , وعقليته , ما لم يجد المنهج المناسب, لتفعيل, كل هذه المدخلات, إلى رؤية , قادرة على الخلق والإبداع , والإتيان بالجديد , والمفيد.
وهذه الرؤية الخلاقة, لن تتحقق إلا عن طريق امتلاك هذا الكائن البشري, لمنهج ٍ يتصف بالمرونة, والنظرة الشمولية, المزودة بالمعرفة الضرورية.

[1] مجلة نزوى – العدد 40- سعيد توفيق – محنة الفلسفة – ص 16-20.
[2] نفس المصدر.
[3] نفس المصدر.

دفاعا ً عن الاختلاف وحق النقد...رؤية في القراءة (المحرميّة) لأركون.


نشرت صحيفة عمان في ملحقها الثقافي الاربعائي "شرفات " , في اعدادها (221,220,219) نشرت سلسلة من المقالات تحت عنوان "قراءة في فكر محمد أركون" للكاتب د.زكريا المحرمي.

تحاول هذه الورقة القيام بقراءة ٍ للقراءة المحرمية (نسبة إلى زكريا المحرمي) عن " أركون" ومنهجيته الفكرية والنقاط والمسائل التي جاءت في القراءة (المحرمية) , وهي لا تقترب من قريب ٍ او بعيد من شخصية الكاتب الذي نكن له كل تقدير واحترام, سواء ً على الجانب المعرفي ام على الجانب الشخصي.

من الضروري القول بأن هذه القراءة هي ليست للدفاع عن " أركون" ومنهجيته الفكرية فهو يستطيع القيام بذلك وهو بالفعل يقوم بذلك منذ زمن طويل بكل براعة ولباقة, بما يمتلكه من أدوات ٍ معرفية ولغوية ومنهجية, ولكن هذه القراءة هي للدفاع عن المسارات التاريخية للكائن البشري وعن حق التفلسف لهذا الكائن, بل وعن حيوية هذا الحق وضرورته. هذه القراءة هي للقول بأن هناك إمكانيات بل وضرورات للرؤية غير الدينية للقضايا والمواضيع والمسائل, فهناك ضرورات متعددة للقراءة الفلسفية المفقودة في الراهن العربي. لم تعد هذه القراءات الفلسفية والتي تتخذ التعددية المنهجية كوسائل, لم تعد ترفا زائدا ًً بل هي حاجة ماسة لإنفتاح الرؤية على العالم وعدم اقتصارها على الرؤية الدينية والفقهية والمذهبية تحديدا ً. ان تصدّر الرؤية الدينية على بقية الرؤى الأخرى في النظرة للوجود والنصوص , من رؤى صوفية وفلسفية وغيرها, لهي ظاهرة تستدعي الوقوف عندها, والبحث عن اسبابها وعوامل تصاعدها, والتأمل في نتائجها , ودور السياقات المعاصرة من سياقات ٍ تأويلية واقتصادية وفكرية. ولكن ليس هنا محلها.

الملامح العامة للقراءة (المحرميّة) :-

ثمة ملامح عامة تتسم بها هذه القراءة (المحرمية) وهي كالتالي :-

اولا ً ) تعتمد هذه القراءة على ثلاثة مراجع لقراءة (اركون) فقط , نقصد بذلك انه رجع لثلاثة مؤلفات من المجموع الكلي لإنتاج (اركون) الا وهي :-
أ‌) قضايا في نقد العقل الديني ...كيف نفهم الاسلام اليوم؟. دار الطليعة.
ب‌) تأصيل الأصول واستحالة التأصيل...نحو تأريخ آخر للفكر الاسلامي. دار الساقي.
ج) الفكر الاسلامي نقد واجتهاد. دار الساقي.

نقول هذا الكلام لأن الكاتب لم يشر في قراءته الا لهذه المراجع الثلاثة فقط , وهو ما يجعلنا نستعير عبارته التي اوردها في قراءته بأن "كثيرا ً من الانتقادات قائمة على قراءات مبتسرة للمشروع الاركوني الذي هو نتاج لحقبة زمنية ٍ متطاولة تعود الى سنة 1975" , فهل من الممكن ان نعتبر هذه القراءة قراءة موضوعية تهدف لفتح آفاق ٍ فكرية جديدة للمتلقي ؟ ام إننا نعتبر – وهذا من ضمن قراءات عديدة – هذه القراءة جاءت لإعطاء صورة مغايرة عن الصورة المعرفية (لأركون) ؟
لا ننكر الاهمية الكبيرة لهذه المراجع فيما يتعلق بالمنهجية (الاركونية) ولكن اذا رأينا المنهجية (الاركونية) في عمومها نكتشف ان هناك اعمالاً لاتقل اهمية عن المؤلفات السابقة بل ونستطيع القول بأن المؤلفات المحورية (لأركون) لم تصل الى يد صاحب القراءة (المحرمية). وهذه المؤلفات التي لم يطلع عليها صاحب هذه القراءة قادرة على تغيير هذه النظرة تجاه (اركون).

ثانيا ً) منهجية القراءة (المحرمية) هي منهجية تختلف كليّا ً عن المنهجية (الاركونية) في قراءة الاخير للنصوص والاحداث. فإذا تتبعنا بدقة نجد ان القراءة (المحرمية) هي قراءة دينية فقهية مذهبية , حاولت الدخول الى مجموعة ٍ من المناهج الفلسفية والتاريخية وما يتعلق بعلم النفس وعلم اللسانيات وغيرها من المناهج المتعددة والواسعة. هذا الفرق بين المنهجيتين هو ما ادى الى وقوع القراءة (المحرمية) في احكام القيمة التفاضلية البعيدة عن الحياد والموضوعية التي تحاول هذه القراءة ايصالها للمتلقي.

ثالثا ً) الانتقائية خارج السياق. تطرقت القراءة (المحرمية) لمواضيع محددة فقط في الطرح (الاركوني) , وهذه المواضيع وهذه الانتقائية تجعلنا نطرح تساؤلا ً حول اسباب التركيز على هذه المواضيع فقط واهمال بقية الجهود التي قام بها وما زال يقوم بها (اركون)؟ وهذه النقطة الاخيرة توصلنا لنقطة اكثر خطورة تتعلق بهدف هذه القراءة : هل هذه المواضيع - برغم اقتطاعها من السياق وهو ما سنوضحه لا حقا ً - كافية لإصدار هذه القراءة ؟ وبالتالي هذه الاحكام الحدية؟


نفي الثالث المرفوع :-

تبدأ القراءة المحرمية (نسبة إلى زكريا المحرمي) بموقف تصنيفي فيما يتعلق بالمفكرين المسلمين فهناك مفكرين منبهرين بالحضارة الأوروبية وآخرون اتخذوا موقف النكوص والتراجع عن هذه الحضارة وهذا الموقف أو هذا التصنيف ليس جديدا ً في الواقع ولكن الجديد هنا أن يتم التلميح بأن (محمد أركون) من المنبهرين بالحضارة الأوروبية. ف بما انه ليس من التصنيف الثاني الا وهو "السلفيين" حسب تعبير (المحرمي) فإنه من الطبيعي أن ينتمي إلى التصنيف الأول , حسب تصنيف (المحرمي) بالطبع.

فإذا ما تتبعنا كتابات ودراسات (أركون) نجد انه من المستخدمين أو من المستفيدين من النتاجات المعرفية والحضارية التي تأتي بها الحضارة الأوروبية. فليس كل مستخدم للإنتاج الحضاري المغاير لحضارته منبهر بها, ذلك أن الانبهار في هذا السياق, موقف غير واع ٍ بما يأتي به, أو فلنقل بأنه يأتي بآخر الموضات الفكرية والمنهجية بدون دراية وتمحيص ونقد لهذه المنهجية, والتي يحذر منها (أركون) دائما الباحثين الجدد والدارسين حاليا في الجامعات الأوروبية والذين يسعون للشهرة الإعلامية على حساب المنهجية الجادة في البحث. في الواقع لا يكف (أركون) عن الارتداد على المناهج المستخدمة في الغرب الأوروبي لدراسة القديم العربي ونقد هذه المناهج وإبراز ما فيها من نقص لا يتلائم مع السياقات المتباينة, بل انه أحيانا ما يدخل عليها تعديلات داخلية في هذه المناهج.

لا تتصور القراءة (المحرمية) , إمكانية وجود باحث من الممكن ان يخرج عن هذا التصنيف الثنائي التقليدي الضدي , فالباحث بحسب هذه القراءة اما ان يكون مع الحضارة التي يعيش في فضاءاتها المعرفية بكل ما يملك وان يخضع كل ما يتناوله بالبحث والتقصي الى منهجيات هذه الحضارة متجاهلا ً خصوصية كل حضارة على حده, او ان يكون ضدها وذلك بالالتفات او النكوص الى حضارته وترك كل ما من شأنه الاستفادة منه.
وهذه النقطة تعيدنا للملمح الثاني للقراءة (المحرمية) السابقة الذكر والتي من شأن هذه المنهجية عدم القبول بالمناطق الرمادية في التصنيفات او بالتداخلات المعرفية , انها رؤية دينية فقهية مذهبية حدية , ذات رؤية واحده , تحاكم منهج او مناهج متعدده.

ولكي لا نبقى في سماء التجريد نسارع بالقول بأن النقد (الاركوني) ناتج عن تلك القوة المعرفية , التي يتمتع بها الباحث, فهو (اركون) في معظم بحوثه وبإختلاف الحضور ومستوياتهم وامكانياتهم المعرفية المتينة والمرموقة , لا يتوقف عن هذا النقد المنهجي المعرفي من داخل هذه المناهج. سأورد هنا وفي هذه الفقرة نموذجين من هذه النماذج وهي موجودة في مؤلفات (اركونية) جاءت في القراءة (المحرمية) كمراجع , مما يضعنا امام تساؤل مضاعف حول اهداف القراءة (المحرمية).

اولا ً) في الصفحة(17) من كتاب (قضايا في نقد العقل الديني...كيف نفهم الاسلام اليوم؟) وفي مفتتح دراسته الاولى من هذا الكتاب وهي بعنوان ( كيف ندرس الاسلام اليوم؟ ...التواصل المستحيل) , يتحدث اركون هنا في بداية هذه الدراسة عن المخيال السلبي المشكّل عن الاسلام في الغرب , وهو في ذلك يقول للباحثين الغربيين والاوروبيين بأن تصدّر الحركات الأصولية و وصول الصورة العنيفة عن الإسلام للواجهة, لا تعنيان بأن الاسلام كله هكذا او انه يشجع على العنف والقتل , ولكن قبل ان تصدروا هذه الاحكام (والكلام موجه لبعض الباحثين الغربيين) عليكم ان تنظروا للواقع الذي يعيش فيه المسلمون. فهذا الواقع مليء بالقهر والظلم والفقر وعدم العدل وسوء التدريس وغيرها من العوامل الظرفية الزائلة والغير ثابته , اي ان هذه الحالة والاوضاع ليست من ضمن تكوين العرب والمسلمين وانما هناك ظروف تجعلهم يقومون بهذه الاعمال. وفي جانب آخرٍ ودائما ً, يخاطب الباحثين الغربيين بأنكم عندما كنتم في عصور الظلام والفقر والاستبداد كنتم تقومون بنفس الافعال تجاه بعضكم فلا تنسوا افعالكم قبل بداية عصر التنوير او اثناءه. من الضروري أن ترجعوا للحضارة العربية الإسلامية في عصورها الذهبية أي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي لتكتشفوا الانجازات والمناقشات والتعايش بين جميع التخصصات والأديان والمذاهب. كل ذلك حصل بالفعل في ذلك العصر في الحضارة العربية والإسلامية مما يعني بأن ما هو حاصل الآن ليس إلا موقف ظرفي وعابر.

ثانيا ً) في الصفحة ((72 من نفس الكتاب السابق , وفي دراسة عن المؤرخ وصديقه الحميم جدا (كلود كاهين ), وبعد ان يورد العديد من المواضيع التي ألح بها (اركون) على (كاهين) قبل رحيله بالطبع , وبعد تطرقه وبشكل ٍ سريع على العديد من القضايا التاريخية, يقوم بوضع مؤلفات صديقه (كلود كاهين) على محك تساؤلات ٍ منهجية ثلاث:-

1) مشاكل التقطيع والتقسيم :التقطيع طبقا ً للنطاقات الثقافية والحضارية , والتقطيع طبقا ً للتسلسل الزمني, والتقطيع طبقا ً للأقاليم والمناطق الجغرافية.
2) مشاكل المعجم اللفظي او المصطلحي المستخدم من قبل المؤرخ.
3) مشاكل المعرفة التاريخية.

لا داعي للقول بأن هذه العناوين الثلاثة للتساؤلات (الاركونية) حول منهج (كاهين), هي تساؤلات في عمق المنهج الذي يستخدمه المؤرخ , وهي بالمناسبة لا تنطبق على (كاهين) فقط وانما تنطبق ايضا ً وبشكل ٍ اعم على المنهج الماركسي الذي يتبعه المؤرخ (كاهين) في معالجاته حينما يتناول القديم الاسلامي.

بعد هذه الادلة التي اوردناها وبشكل ٍ سريع , نتسائل : هل (اركون) وهو يمارس النقد المعرفي العميق , منبهر بالحضارة الاوروبية ونتاجاتها المعرفية والمنهجية كما ألمحت بذلك القراءة (المحرمية)؟

قبل ان ندخل في الفقرة الثانية والمتعلقة (بالمنهجية الاركونية) نورد توضيحا ً ضروريا ً وسريعا ً. جاء في القراءة(المحرمية) بأن (اركون) قد تعّرض لكثير ٍ من النقد بخصوص استخدامه او تبنيه للمناهج المعرفية الغربية, والتوضيح من قبلنا كالآتي : بأن جميع المناهج النقدية والتحليلية والتاريخية بطبيعتها تصدم (الوعي) الساكن والمتصالح مع جميع مسلماته , وبأن جميع الرؤى الجديدة على المجتمعات التي تكشف عن تاريخية النصوص والافكار والرؤى, يتم مقابلتها بردود فعل ٍ سلبية وعنيفة , وليس (اركون) استثناءً من هذه المسألة. واذا تحدثنا عن ردود الافعال العربية فإن الوضع سيكون مضاعفا ً بلا شك ذلك ان العوامل والاوضاع الراهنة , الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية , لا تساعد على النقد ولكن الفجوة المعرفية التي يعيشها العرب والمسلمون لا تسمح بالمقابل بالتأخر أو بالمتاجرة في هذا النقد. لقد تعرّض (أركون) للهجوم من الطرفين , اقصد من طرف الباحثين الغربيين وطرف المسلمين, فهو في الجانب الغربي متهم بأنه "شيخ بدون عمامة" أو "شيخ حديث " جاء ليعيد الدين إلى الحياة من جديد بعدما تم تهميشه بعد الثورات المعرفية التي تعرض لها الغرب الأوروبي , وخاصة بعد رأيه في قضية (سلمان رشدي), بالإضافة إلى إصراره المتكرر وإلحاحه الدائم بضرورة إدخال الظاهرة الدينية الإسلامية حينما يتم دراسة الظاهرة الدينية بشكل ٍ عام. لقد أضاف انتقاده لتلك المنهجية الحرفية التي يسكلها بعض المستشرقين أو المستعربين في معالجتهم للظاهرة الدينية ووضعيتهم الزائدة عن الحد ونفيهم لكل ما هو غير مرئي في الحياة من اعتقادات وتقديس وعدم اخذهم في الحسبان كل ذلك ,اثار عليه الكثير من الانتقادات وردات الفعل العنيفة. اما فيما يخص الباحثين او المثقفين العرب والمسلمون والقراء بشكل ٍ عام , فحدّث ولا حرج, فالفجوه المعرفية التي يعيشها العرب المعاصرون لا تعطي الباحث والمؤرخ الفرصه لكي يستخدم المناهج المعرفية المختلفة على التاريخ والنصوص الاساسية في حضارتهم.

الاختزال المنهجي :-

منذ ما يزيد على الثلاثة عقود و(أركون) يمارس البحث والنقد والتحليل تارة , والاضاءة والتوضيح تارة اخرى فيما يخص الظاهرة الدينية بشكل ٍ عام والظاهرة الاسلامية بشكل ٍ خاص. وفي كل مرة يقوم بعملية معقدة وهامة او بالاصح بعمليات ٍ معقدة متشابكة وليس عملية واحدة. لقد تناول (اركون) خلال العقود الثلاثة الماضية المسائل المعقدة والمتداخلة في الظاهرة الدينية والاسلامية خصوصا ً. وهو في هذا البحث والنقد لم يضع خطوطا ً حمراء في البحث والنقد, بالاضافة الى ذلك فهو لم يأت بمنهجية ٍ واحدة لدراسة هذه المنظومة او بمنهجيتين, لقد جاء بمنظومة ٍ معقدة بعد ان مارس عليها التعديل والتهذيب. لقد استعان بعلم التاريخ الانتربولوجي: اي بعلم التاريخ للإنسان بما هو انسان بشكل ٍ عام. وهو في ذلك يستخدم منهج مدرسة المؤرخ الفرنسي (فرنان بروديل), وحسب هذه المدرسة فإن التاريخ البشري ينقسم لثلاث فئات:الفترة القصيرة لحدث ٍ يقاس بالايام والساعات, والفترة المتوسطة التي تقاس بعشرات السنين ,والفترة الطويلة التي تقاس بمئات او بالآف السنين. وهو في هذا العلم يتم معاملة الانسان بدون الاختلافات العرقية والدينية واللغوية. فهناك فرق كبير بين ان ننظر للظاهرة اية ظاهرة من خلال المدة القصيرة او المدة الطويلة للتاريخ. فإذا اردنا ان ننظر لمسألة ٍ ما , مثل التداخل النصي او النصانيه او التناص (بحسب الترجمات العربية) في النصوص المقدسة الكبرى, لا يكفي ان ننظر إليها في اطار المدة القصيرة بل يجب ان نمد الرؤية الى المدة الطويلة. لقد استعان أيضا ً بعلم اللسانيات وهو يبحث في اللغة بما هي لغة تتكون من حروف واصوات, وتتكون من خطاب وبما يشمله من مرسل ٍ ومستقبل وقناة توصيل وشيفرة تفاهم بين المتلقين , بغض النظر عن الاسقاطات النفسية التي يسقطها اصحاب هذه اللغة والنصوص عليها من تقديس وتميّز.
وبغرض التوضيح نقول بأن هناك سمات عامة تتميز بها اللغات بشكل ٍ عام بما هي لغات بعيدا ً عن الإسقاطات النفسية.
فهناك النسق الصوتي : وهو الذي يحدد نطق الكلمات أو أجزاء الكلمات وفق الأنماط المقبولة أو المتعارف عليها لدى الجماعة اللغوية.
النسق الدلالي: ويعني ترتيب الوحدات المعنوية وفق سماتها الدلالية المعروفة أو المقبولة في اللغة.
النسق الإعرابي أو النحوي: ويعني ترتيب كلمات الجملة أو الجمل في أشكالها المقررة في اللغة.
النسق الصرفي: وهو النسق الذي تعالج فيه أو من خلاله بنيات الكلمات وأنواعها وتصريفاتها واشتقاقاتها.
النسق المعجمي: ويقصد به مجموع المفردات اللغوية المتاحة للتعبير عن المعاني والمواقف المختلفة في إطار اللغة.
على هذه الاسس التي اختصرناها هنا وغيرها الكثير يحاول (أركون) دراسة السياقات الاسلامية بما تحويه من نصوص ومعتقدات ورؤى ضمن منظور ٍ عام كوني وشامل.
في الاسطر السابقة لم نحاول توضيح او شرح للمناهج التي يستخدمها(اركون) بقدر ما حاولنا اظهار كونية هذه المناهج وعموميتها, فهي لم يتم بلورتها لشعب ٍ او لعرق ٍ دون الآخر , بل هي من الممكن ان تستوعب معظم الشعوب والحضارات ان لم نقل جميعها.
ولكن لا يعني ذلك اننا قد شملنا المنهجية (الاركونية) جميعها , فهذه المنهجية منهجية فلسفية ,ومعنى ذلك انها تتوسل المفاهيم والمصطلحات بعد تهذيبها طبعا ً, لكي يتم معالجة الاحداث والوقائع الجديدة عليها.
لذلك اذا اردنا ان نتحدث عن المنهجية (الاركونية) فالخطوة الاولى كما أرى , هي في التوضيح والشرح المفاهيمي, اي في اظهار كل المفاهيم التي تحرك وتسيّر الفكر (الاركوني) بشكل ٍ عام. وبدون هذه الخطوة التأسيسية لن نستطيع استيعاب وهضم المنهجية (الاركونية).
هناك الكثير من المفاهيم التي لم تتطرق إليها القراءة (المحرمية) واكتفت هذه القراءة فقط بما يمكن تسميته بالخطوط العامة والنظرية. اي تلك التي تنطبق على جميع الاديان والمجتمعات. في حين ان هناك اضافات ٍ (اركونية) فيما يتعلق بالظاهرة الدينية والاسلامية تحديدا ً, وهذه الاضافات تأخذ الظاهرة الاسلامية وخصوصياتها بعين الاعتبار ضمن اطار الظاهرة الدينية الواسعة.
يلح(اركون) دائما ً على علم الاديان المقارن , وهو في إلحاحه هذا يحاول ان يزيل تلك النظرة التفاضلية التي يتمسك بها بعض الباحثين الاوروبيين, اذ يجعل بعضهم الدين المسيحي كدين ٍ متميز وقابل للعلمنة ومن الممكن مناقشة كل اعتقاداته , في حين ان بقية الاديان تستعصي على ذلك, والسبب ليس متعلقا ً بالدين ولكن بالمخيال المتشكّل عن هذا الدين.
ابرزت القراءة (المحرمية) في النقطة الثانية من فقرة المنهجية(الاركونية), ابرزت القاعدة الثانية وهي :"ابراز الابعاد المعرفية الواسعة التي عجزت اللغة العربية عن استيعابها والتعبير عنها والتدليل عليها" وقد اختزل (اركون) هذه القواعد في عبارة (جدلية الفكر- اللغة- والتاريخ او المجتمع), والكلام هنا وارد في القراءة (المحرمية). وفي الواقع هذه النقطة مرتبطة بشكل ٍ رئيسي مع الفقرة المعنونة في القراءة (المحرمية) ب"اللغة العربية والحصار المزدوج" ونحن اذ نوضح هذه الجدلية الثلاثية نرى انه لا يحتاج الى تفنيد الرؤية التي جاءت بدون مبرر في الفقرة المختصة من القراءة (المحرمية) بعنوان "اللغة العربية والحصار المزدوج", من نافل القول التأكيد على النظرة الجوهرانية الثابتة التي جاءت بها القراءة (المحرمية) فيما يتعلق بهذه الدائرة الجدلية , وهذه النظرة الجوهرانية وضعت اللغة بشكل ٍ عام وليس اللغة العربية فقط ك اقنوم ثابت لا يتأثر بما حوله.
يبدو أننا سنكون مدرسيين في هذه الفقرة , اي اننا سنتبع المنهج التعليمي في الطرح وذلك بهدف التوضيح وازالة الإلتباس المقصود فيما يخص جدلية (الفكر - اللغة – التاريخ او المجتمع).

في البداية لا يوجد تعريف اتفاقي حول اللغة وفي الواقع أن هذا الاختلاف مهم وفي نفس الوقت لا يمكن عرضه هنا لأننا نريد أن نبيّن الترابط بين هذه الدائرة الجدلية المستمرة (الفكر – اللغة – التاريخ أو المجتمع) , وبطبيعة الحال يتطلب منا أن نبيّن التعريفات لهذه الدائرة الجدلية , وسنبدأ باللغة.
اختلفت الآراء حول اللغة هل هي مواضعة واصطلاح أم وحي وتوقيف, وقيل في ذلك كلام كثير وسادت نقاشات واسعة حول هذه النقطة قد يكون من أهمها ذلك الجدل الذي دار في الفكر المعتزلي. فالذي يقول بأنها وحي وتوقيف يستدل بتلك الوحدة النصية (كما هي مصطلحات علم اللسانيات) أو كما تسمى في الفقه بالآية القرآنية "وعلم آدم الأسماء كلها" , كما طرح بعض الفقهاء و علماء اللغة بعض التوسعات حول هذه الوحدة النصية/ الآية , لماذا فقط الأسماء وفي اللغة أسماء وأفعال وحروف؟ ويعلل "ابن جنيّ" في عمله الهام "الخصائص", ذلك بقوله ( اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة، ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم، وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف والفعل، فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس والرتبة، على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها مما هو تال لها، ومحمول في الحاجة إليه عليها ) انتهى. أما فيما يتعلق بالقائلين بالمواضعة ف يطرح "ابن جني" ما معناه: وهو كيف نتعامل مع المستجدات الواقعية على الصعيد اللغوي ؟ وكيف نتعامل مع الترجمة من لغة ما إلى لغة ٍ أخرى؟
لا يمكن بأي حال ٍ من الأحوال حسم هذه المسألة او الوصول لإجابة ٍ نهائية في ما يتعلق بالسؤالين الواردين حول اللغة فيما اذا كانت اصطلاحية او نتيجة وحي؟ ذلك لأن الخلفية المعرفية للمتحدث تجعله ينحاز لمبرراته وأسبابه, ويتزايد هذا الانحياز إذا تعلق الأمر بوجود نصوص "مقدسة", كما هو الحال في وجود النص القرآني في الثقافة الاسلامية.

يضع "ابن جني " تعريفه للغة فيقول بأنها "أصوات يعبر بها كل قوم ٍ عن أغراضهم" وإذا أردنا أن نستنطق هذا التعريف ونجعله متحركا ً غير ساكن أمكننا القول بأن كل قوم في حالة طبيعية ٍ من الحركة والتبدّل في أفكارهم وأفعالهم وبالتالي فإن أغراضهم غير ثابتة وهذه الأغراض(الافعال والاقوال) نتيجة طبيعية للتفاعل سواء ً أكانت بين الأشخاص والكائنات أو كانت مع الأشياء.من هنا تأتي الإمكانية الكبرى لمواضعة اللغة وتوليدها عن طريق الكائن البشري.
بإمكاننا توسييع التعريف السابق ليشمل ايضا َ تلك الاشارات والرموز والايحاءات المتعارف عليها بين مجموعة لغوية , وهذه الاشارات تصبح عديمة التواصل اذا افتقدت لتلك الشفرة او الخلفية المعرفية التي تجمع بين المتحدثين. فلا يمكن ان نتصور ان يحصل تفاهم بين مجموعة من البشر من دون اشارات او رموز او ايحاءات او اصوات.
تتعرض اللغة مثلها في ذلك مثل الكائن البشري والدول والامم والحضارات للكثير من التغيّرات والتحولات, فهي(اللغة) ترتهن بالعديد من المعطيات والظواهر , بما فيها الظواهر المؤثرة على الكائن البشري من تفاعل وانعزال, وتواصل وجمود. وهذه المعطيات مرتبطة بالسياق الذي يعيش فيه الكائن البشري. ففي السياق الزراعي, اي اذا تحدثنا مع انسان يعيش في بيئة ٍ زراعية منعزله , فإننا نجده يتحدث في اطار القاموس البيئي الذي يحيط به , او الذي يتعايش معه. وهذا الامر ينطبق على جميع السياقات ومختلف البيئات. ف ألفاظ الانسان الذي يعيش في عصر الحداثة وما بعدها وقاموسه ينتميان لهذا العصر الما بعد الحداثي.
اذا اردنا ان نقوم بعملية مقارنة سريعة بهدف توضيح هذه النقطة الواضحة, سنأخذ على سبيل المثال تجربة الفيلسوف القرطبي "ابن رشد" وقاموسه اللغوي والاطار الفكري الذي يعبر به عن افكاره في زمانه واوانه , ونقارنه في ذلك مع "اركون" موضوع هذه القراءة.
لماذا نقارن بين علمين مؤثرين في الفكر الفلسفي , برغم الفارق الزمني بينهما ؟ لنظهر ارتباط القاموس المعجمي والمصطلحي بالسياق المعرفي.
من المعروف ان "ابن رشد" يمثل آخر الفلاسفة العرب في الحضارة العربية الاسلامية القديمة والمؤثر في خط سير الحضارة الاوروبية المعاصره, وهو يعتبر من المحركين للفكر الاوروبي قبل عصر النهضة الاوروبي. في حين ان "اركون" موضوع هذه الدراسة وهو معاصر لنا معروف من قبل المتلقي.
هذه المقارنة السريعة هي مقارنة من حيث القاموس المستخدم في توضيح الفكرة , ومعرفة سقف التفكير "الرشدي" داخل اطار عصره ولغته وبيئته.(تستلزم هذه المقارنة بحوث كثيره, ولكننا نقوم بها هنا بشكل ٍ سريع)
من المعروف ان الفلسفة الرشدية قادمة من المرجعية الارسطية , بالتلاقح مع الشريعة والفقه بالطبع, وهو يعيش في بيئة ٍ فقهية تحتقر الفلسفة , فهي تطلق عليها "العلوم الدخيلة" كما هو الحال الآن مع علوم الانتربولوجيا( علم الانسان) و اللسانيات والسيميائيات(ما اشبه الليلة بالبارحة) وغيرها , بالرغم من انه "ابن رشد" فيلسوف كبير, إلا انه لا يستطيع ان يتجاوز عصره فهو يبدأ مؤلفاته الفلسفية بمقدمة ٍ دينية حتى ان القاريء يعتقد انه سيقرأ خطبة دينية وليس كتاب فلسفي, وهو في محاولته افساح المجال للفلسفة في ثقافته المعاصره يبدأ بالبحث عن مرجعية من النص القرآني ليثبت ان النظر العقلي في حكم "الندب" وان الشرع قد حث على النظر في الموجودات , "وان النظر البرهاني لا يؤدي الى مخالفة ما ورد به الشرع"(فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال, ابن رشد). ما الذي اجبر "ابن رشد" وهو الفقيه الفيلسوف المتبحّر في العلوم العقلية والعلوم النقلية (بحسب التصنيف القديم) , مالذي دعاه الى استخدام هذه الاستراتيجية في افتتاح مؤلفاته الفلسفية؟ نطرح هذا السؤال بالرغم من معرفتنا المصير الذي جناه "ابن رشد" من استخدامه لهذه الإستراتيجية المخاتلة من الناحية المعرفية.
وفي مجال ٍ آخر نجد ان "ابن رشد" في حديثه عن مسألة دور المرأة والرجل في تكون الجنين نجد انه ينحاز الى ان ما يفرزه رحم المرأه من سوائل لادور له في الحمل وان الرجل هو وحده الذي يرجع إليه الجنين, بالرغم من انه قد سأل بعض النساء إلا ان اجابتهن كانت هكذا , وفي ذلك ينحاز الى ارسطو ورؤيته.لم تكن الاطر المعرفية تسمح "لإبن رشد" بالحديث خارج هذا الاطار بالرغم من ان "جالينوس" قال بأن السائل الذي يخرج من الرجل له نفس الدور للسائل الذي تخرجه المرأة. إلا أن المرجعية المعرفية الأرسطية تفوقت على "جالينوس". ما اريد ان اقوله بأن اللغة مرتبطة مع الفكر والبيئة /المجتمع او السياق وهي في ذلك محصورة ضمن اطر معينة وسقف خاص بالتفكير. فهناك مواضيع لا يمكن التفكير فيها في حقبة زمنية معينة ولكنها تصبح فكرة شائعة ويتم الحديث عنها بحرية اكثر في فترة مختلفة. هل يمكن التفكير في بداية عصر الدعوة المحمدية باستخدام هذه التقنية الوسائطية؟ او سرعة التنقل وانتشارها ؟ هل كان يمكن التفكير في مفهوم المواطنة كما هو في العصر الحالي ؟
لذلك نجد ان كتابات "ابن رشد" لا يمكن ان تخلو من القاموس او المصطلح المعجمي الديني حتى وهو يعبر عن الفلسفة واهميتها.
اذا اردنا ان نتجه الى القاموس"الاركوني", سنجد انه قاموس معاصر للعلوم الاجتماعية والفلسفية واللغوية العالمية, نجد هذه الملامح منتشرة في قاموسه اللغوي وفي الاحالات والمراجع التي يعتمد عليها لتوضيح افكاره , ولتبيين مقاصده. وفيما سبق بعض من الشرح والتوضيح.

الفكر مرتبط بالسياق ارتباطا ً وثيقا ً, واللغة ترتبط بهما, لأننا نعبر من خلالها. كيف يعبرالفيزيائي عن العالم الا من خلال مصطلحات الذرة والسرعة والقوة ... وغيرها. وكيف للفيلسوف ان يتحدث بدون مفاهيم او تعريفات او بدون ذكر ٍ للمرجعيات المعروفة في المجال الفلسفي؟ والامر ينطبق على الفقيه واللغوي وغيرهم.
اجد نفسي مجبرا ً على الرجوع لذلك التوضيح فيما يتعلق بعلم اللغويات او الالسنيات, بين اللغة والكلام.
اللغة هي ذلك المخزون اللغوي المعجمي الكبير للكثير من التصريفات والاشتقاقات اللغوية الموجودة في اللغة كمخزن ٍ معرفي ومعجمي. اما الكلام فهو مجموع المفردات والمصطلحات المستخدمة من قبل الجماعة اللغوية في فترة ٍ زمنية ٍ ومكانية معينة. وعندما يقول "اركون" ذلك فهو يقصد وكما اوضحنا سابقا ً بأن الاطر المعرفية والفكرية لا تسمح بذلك. توجد موانع متعددة واكراهات مختلفة. مثل النصوص العقائدية , او السياق المعاصر, أو المسيرين لشؤون التقديس(كما يقول ماكس فيبر) ويقصد بهم الفقهاء. هل يمكن التحدث هذه الايام في السياقات العربية والاسلامية المعاصرة وفي ظل تصاعد الاصولية الدينية وهيجانها عن "موت الإله" او "انحسار التقديس" كما صرخ ذات يو م الفيلسوف الالماني "نيتشه" (لا يمكن أن نفهم هذه الصرخة إلا في سياقها التاريخي) ؟ أو هل يمكن الآن مناقشة تلك القضايا التي اثارتها المعتزلة ؟ أو التي أثارها التوحيدي و مسكويه في كتاب الأول بعنوان(الهوامل والشوامل)؟ أم هل يمكن أن نعيد ذلك الرأي للفيلسوف الفارابي حول التمييز بين النبي والفيلسوف , والذي جعل الفيلسوف في مرتبة ٍ أعلى من النبي لأنه يتلقى الحقائق بواسطة العقل؟

الأفق المعرفي العربي المعاصر, محاصر برؤية واحدة تقريبا ً ألا وهي الرؤية الدينية, ف جميع الرؤى الأخرى تم استبعادها من الآفاق المعرفية للجماعات اللغوية. أقول تم استبعادها ونفيها من القاموس اللغوي المعاصر. فهي في يوم ٍ ما كانت متداولة في اللغة العربية, بل وكانت في العصور المزدهرة والمنفتحة للحضارة العربية والإسلامية, كانت اللغة العربية مرجعا ً معرفيا ً مهما, بل وكانت تستقطب الفلاسفة والمفكرين والعلماء, من كل بقاع الدنيا. لم نجد مفكراً معاصرا ً يشتغل على الوجود لا بالرؤية الصوفية أو بالرؤية الفلسفية أو غيرها.
لذلك نجد إن الإطار المعرفي المسموح التفكير به حاليا ً هو بين الحلال والحرام. أو هل يجوز هذا؟ وما حكم ذاك ؟ وما قول سماحتكم في هذه الحادثة؟ وما رأيكم أيها المشائخ الفقهاء الكرام في كذا وكذا؟
لقد تدنى مستوى التفكير وتدنت بالتالي مستويات الرؤى المعرفية وليس غريبا ً أن تأتي اللغة كنتيجة ٍ طبيعية لهذا التدني الشامل والعام, على جميع المستويات والأصعدة. لنحاول أن نتوسع قليلا ً في هذه الرؤية , ونتسائل ما هو وضع من يخالف التصورات الفقهية القادمة من قبل "حراس العقائد وسدنة الأفكار", أولئك الذين يتمتعون بالمكانة الاجتماعية والمقربين من السلطة السياسية ؟

التاريخية و فقدان الارضية المفاهيمية :-

في هذه الفقرة نصل الى النقطة المركزية والمحورية في القراءة (المحرمية), وهذه النقطة جاءت بعنوان (القرآن ودعوى الفوضوية والانتحال). في رأينا ان الفقرات المتعلقة بالنص المقدس عند المسلمين اللاحقة لهذه الفقرة هي نقاط الارتكاز في القراءة (المحرمية) , فالفقرات السابقة ما هي الا مقدمات لهذه الفقرات . فالفقرتان السابقتين بالرغم من الرؤى الايدلوجية الواضحه فيهما والمستترة ايضا ًالا انهما جأتا كتمهيد ٍ ايديولوجي للدخول في هذه الفقرة وللتاثير على المتلقي الغير مطلع على الطرح (الاركوني). التأثير هنا بمعنى الطرح غير الموضوعي والمؤدلج, والهادف الى(تشويش) الرؤية الاركونية.
اذا حاولنا ان نستكشف هذه الفقرة والفقرات اللاحقة عليها, فإننا بحاجة ٍ الى جهد ٍ كبير وطول صبر من القاريء والكثير من المراجع الغير متوفرة باللغة العربية والتي تجعلنا نشعر بالكثير من النقص فيما يخص الدراسات القرآنية وهي في الواقع متوفرة وبكثرة في اللغات الاخرى الالمانية والفرنسية. لماذا لم تتوفر هذه الدراسات التأريخية عن القرآن في لغة القرآن بينما هي متوفرة بلغات ٍ اخرى ؟ لأن الباحثين العرب والمسلمون ما زالوا واقعين تحت ضغوط ٍ كثيرة واكراهات ٍ متعدده, اكراهات نفسية ومنهجية ولغوية والاكثر من ذلك الخوف من المجتمع وردات فعل الاصوليين المتزايده يوما ً بعد الآخر.في الواقع لا تمثل هذه الدراسات تهديدا ً للنص القرآني وانما هي تحميه من الاستخدامات المتزايده في كل المواضع وتجعله في نفس الوقت بمنأى عن التوظيفات الايدلوجية.
نعم تتوفر في اللغة العربية تفاسير تبجيلية وتقليدية وتجميعية واعجازية , وهذه التفاسير للأسف الشديد لم تخرج عن الرؤية البيانية للقرآن او الرؤية التبجيلية , او البحث عن (الاعجاز العلمي) في القرآن , وهي في ذلك بالطبع بعيدة ً كل البعد عن مناهج علم اللسانيات ومنهج علم التأريخ وعلم التناص او التأثير بين الاديان. ولكي نكون موضوعيين فإننا نقول: بأن هذه التفاسير لها جمهورها ولها مناصريها, يكفي ان ننظر للمحاضرات والندوات التقليدية التي تعاد كل يوم في الجوامع والمساجد لنرى حجم هذا الإقبال والحضور عليها. اما لماذا تلقى كل هذا الحضور؟ الاجابه بكل بساطة لأنها تسبغ على المستمعين الطمأنينة والهدوء وتمنحهم الكثير من التواصل مع ما يعتبرونه مقدسأ.
كيف من الممكن ان نتحدّث عن التاريخية او ضرورة القراءة التزامنية والبعد عن القراءة الاسقاطية فيما يتعلق بالنصوص العادية او النصوص المؤسسة؟
كيف لنا ان نفرق بين الانتحال وظروف المجتمعات الشفهية والتعقيدات المصاحبة لها في مجتمعات ٍ لاترى من التاريخ الا العنعنه والروايات التاريخية؟
في مفتتح الفقرة الثالثة(القرآن ودعوى الفوضوية والانتحال) جاء في القراءة(المحرمية) وبشكل ٍ سريع عرض (للمنهجية) (الاركونية) , وهذا العرض لم يتجاوز فقرتين اثنتين. هل مقارنة القرآن مع الكتب المشابهة له في الثقافات الاخرى:التوراة والاناجيل. هل هذه المقارنة هي كل المنهجية (الاركونية) ؟ لماذا تم اختزال وابتسار المنهجية (الاركونية) في هذه النقطة الهامة؟ لماذا تم تجاهل بقية الخطوات المنهجية الاخرى مثل علم التاريخ النفسي :اي ذلك التاريخ الذي يأخذ بعين الاعتبار المؤثرات الغير مرئية في مجرى التاريخ للمؤمنين ,او البعد الايماني. لماذا لم يتم الاشارة في القراءة (المحرمية) الى علم اللسانيات وتاريخية النص وغيرها؟
بعد مقدمةٍ سطحية وعرض غير منهجي للمنهجية (الاركونية) يتم ايراد ست نتائج. فكيف للبحث الموضوعي ان يتوصل لنتائج من خلال مقدمة لا تتجاوز الخمسة اسطر فقط ؟ هل هناك عقل فيضي يساند هذه القراءة؟ ام ان هناك خفايا لم يتم عرضها على المتلقي؟ وما الهدف من عدم العرض هذا؟

في النتيجة الاولى ينبغي ان نوضح ما الذي جعل (اركون) يصك هذا المصطلح الجديد كليا ً في الثقافة العربية اقصد مصطلح :المدونة النصية الرسمية المغلقة. واحلاله محل مصطلح القرآن المتعارف عليه؟ فهو في الواقع يشير الى نفس الكتاب وهو المتعارف عليه بالقرآن. عن طريق هذا التفريق الضروري من الناحية المنهجية يحاول(اركون) نزع تلك الشحنة الدينية المسبغة على القرآن, ومحاولة قراءته في ضوء المعطيات التاريخية التي حصلت في تلك الفترة .انه يشير الى تلك العمليات التي حصلت في التاريخ عندما تم اتلاف بقية النسخ المكتوبة من المصحف وهي ما تسمى في كتب التاريخ القراءات السبع او العشر. لقد تم هذا الاتلاف بناء ً على قرار ٍ رسمي من الخليفة في ذلك العصر:عثمان بن عفان , بالاضافة الى ذلك فقد تم الابقاء على القراءة القريشية اي بلغة قريش. وسبب تسميتها بالرسم العثماني نسبة ً الى الخليفة عثمان بن عفان. وهي مغلقة: اي انها لن ستقبل بالزيادة او النقصان بعد هذا الترسيم العثماني والختم الرسمي.انها نهائية منذ ذلك الحين.
من الضروري قراءة القرآن كنص ٍ مكتوب باللغة العربية بغرض الفهم والتدبر بعيدا ً عن تلك القراءة الشعائرية والطقسية والتي بدورها تفرض على الباحث والقاريء العديد من القيود وتضيف عليه الكثير من الهيبة اللاهوتية الهائلة. يكفي ان يتم توظيف اي وحدة نصية من القرآن او الاستشهاد بها حتى يتم التوقف عن التفكير واستبعاد المنطق غير مراعيين بذلك تلك الظروف التاريخية المحيطة بلحظة صدورها.

في النتيجة الثانية يتم التطرق لمصطلح ٍ قد يبدو غامضا ً ومحاطا ً بالشكوك في الثقافة العربية الاسلامية, وهو في الواقع ضروري لفهم كيفية التعامل من قبل الفاعليين الاجتماعيين في مجتمع ٍ شفاهي لم ينتقل بعد لمرحلة الكتابه والتدوين.هناك سمات معينة تتسم بها المجتمعات الشفاهية اي تلك التي لا تعتمد على الكتابه لحفظ الاحداث والوقائع وانما تعتمد على الذاكرة والحفظ والصوت. تعتبر هذه السمات سمات مشتركة في هذه المجتمعات. من ابرز هذه السمات"النظر الى الاسماء بوصفها ذات سلطان على الاشياء" (اونج:الشفاهية والكتابه ص75, عالم المعرفة العدد182), وهذه السمة تجعلنا نسترجع الكثير من الممارسات الشائعة حاليا ً والتي كانت تمارس في عصر انبثاق الدعوه المحمدية.فمن المعروف وحسب المرويات التاريخية ان آلية تسمية الاشخاص في ذلك العصر, تعتمد على الفأل او التطيرّ , ف الاسماء الجيده للعاملين معهم او لعبيدهم (حسب المصطلح الذي كان متداولا ً) , بينما يسمون ابناءهم بالاسماء السيئة وذلك لتوجيه هذه الاسماء للأعداء , كما اورد ذلك(القلقشندي) في (صبح الاعمى).
من السمات المشتركة في المجتمعات الشفاهية, ضرورة ارتباط المواضيع والقضايا بوجود محاور واحد او اكثر لتتم عملية التواصل والتوصيل. وذلك بهدف نشر هذه المواضيع, ولكن ذلك لا يعني امكانية تطابق بين الاطراف جميعها. لماذا ؟ لأن جميع الاطراف يعتمدون على الذاكرة والحفظ. ولكي تصبح عملية التذكر ممكنة ومقبولة, جاءت الجمل والعبارات, على شكل جمل متكررة او متعارضة او في كلمات ٍ متجانسة الحروف الاولى ومسجوعة(لننظر للخطب الحالية ونقارنها بالجمل والخطب العربية القديمة), ولتتم هذه العملية(التذكر) فإن هذه الجمل تأتي على صيغة امثال وقصص وذلك لتسهيل الحفظ والتناقل.
لا يكترث العقل الشفاهي للتعريفات, لذلك نجد بأن نسبة التعارضات الدلالية قليلة مقارنة مع المجتمعات الكتابية¸ولذلك نجد ان المجتمعات الشفاهية تخلو من القواميس والمعاجم. ذلك ان الالفاظ يتم التحكم فيها عن طريق "التصديق الدلالي المباشر" (اونج: نفس المرجع. ص91). اي ان هذه العملية اللغوية المعقدة, وجود تعريفات وقواميس,تحتاج لمجتمع ٍ كتابي يتداول المعرفة ويتحاور حول المفاهيم, وعن طريق هذه العملية تبتعد الالفاظ عن التصديق الدلالي المباشر ليصبح المعنى احتمالي وتأويلي وقابل للعديد من الرؤى.
بناء ً على هذه المقدمة السريعة والبسيطة نستطيع القول بأن النتيجة الثانية الواردة في القراءة (المحرمية) عن الفروقات بين المجتمعات الشفاهية والمجتمعات الكتابية هي فروقات طبيعية وان عمليات مثل الحذف والانتخاب والتلاعبات اللغوية تصبح طبيعية, وليست شيئا ً مستغربا ً اوانتقاصا ً من المجتمعات الشفاهية وكل ما تحاول انتاجه.

في النتيجة الثالثة وكما جاء بالطبع في القراءة(المحرمية),تنطلق المنهجية(الاركونية) من منظار ٍ واسع, الا وهو منظار الظاهرة الدينية بعموميتها, وعندما نقول الظاهرة الدينية فإننا نقصد تلك الظاهرة الدينية التي يتم استبطانها وممارستها من قبل المؤمنين بهذه الديانة او تلك. وهو من هذا المنظار الواسع يتعامل مع الاديان كظاهرة ٍ انتربولوجية عامة , وبأن التقديس بالرغم من تباينه بين المجتمعات المختلفة, ضروري للكائن البشري. يجب ان ننظر للكتب المقدسة بمنظور ٍ واسع وان لا ننتقص من قيمة بقية الاديان, لأن هناك قواسم مشتركة بين هذه الديانات من كتاب ٍ مقدّس او كتب مقدسه, وطقس تعبدي , ومعتقد استبطاني , واماكن مقدسة.ان الفروقات التي توردها ديانة معينة للإنتقاص من بقية الديانات, ان هذه الفروقات موجودة في كل ديانة ,وفي المقابل ان عملية التفاضل ما هي الا عملية اسقاطية, ذلك ان عن طريق المقارنة بين الاديان وتواريخها نكتشف بأن جميع الاديان قد مرت بنفس الخطوات والحالات تقريبا ً. وبالتالي فإن ما حصل للكتب المقدسة من قراءات ٍ ألسنية وتاريخية, من الممكن بل ومن الضروري ان يحصل للكتب المقدسة الاخرى.

اذا انتقلنا للنقطة الرابعة او النتيجة الرابعة فلكي نتحدث فيها يكفي ان ننظر للكتب الفقهية المختصة بعلوم القرآن , وبشكل ٍ خاص "اسباب النزول" لنفهم هذه النقطة جيدا ً.

سنتجاوز النتيجة الخامسة لأننا من الممكن ان نعتبرها بمثابة مشروع كبير بحاجه للكثير من فرق البحث والمحققين العلميين , وهي مرحلة ضرورية وان تأخرت كثيرا ً.

في النتيجة السادسة في القراءة(المحرمية) نصطدم بالاقتطاع الواضح للنص عن السياق الأصلي الذي ورد فيه. ففي النص الوارد في القراءة(المحرمية) وفي هذه النتيجة بالتحديد نجد ان الاقتباس يبدأ ب(جميع انماط القراءة التي استعرضناها ....) فعن اي انماط للقراءت تتحدث القراءة (المحرمية)؟ هل ما سبق من نتائج هي عبارة عن انماط للقراءة؟ هل نحتاج للقول بأن انماط القراءة المقصودة في السياق(الاركوني) هي تلك الانماط التي يتم بها قراءة المدونة النصية الرسمية المغلقة(القرآن) والقراءات المقترحة من قبل علم اللسانيات وعلم التأريخ , والنتائج الايجابية المتوخاة من هذه القراءات , وتلك القراءات والمنهجيات التي تم تطبيقها من المدرسة الألمانية على يد (ثيودرو نولدكه – 1836-1930) الذي أصدره في العام (1860) في عمله الهام جداً (تاريخ القرآن) , والذي ناقش فيه مسألة التسلسل التاريخي للسور والآيات القرآنية مقترحا ً في هذا الإطار ترتيبا ً لها يختلف عن الترتيب الموجود في المدونة الرسمية المغلقة, يقوم هذا الترتيب على أسباب النزول , أي بحسب زمن نزولها المعهود في الإسلام.
لا يمكن مغادرة هذه النتيجة السادسة دون الحديث عن الدور الايجابي للمستشرقين فيما يتعلق بالدراسات والبحوث وتحقيق الكثير من الكتب المفقودة واعادتها للحياة مرة اخرى فيما يخص الحضارة العربية والاسلامية, ف بالرغم من الدور السلبي الذي حاولت القراءة (المحرمية) ايصاله للمتلقي عن المستشرقين الا ان الواقع الموضوعي والتاريخي لا يمنحنا فرصة التغاضي عن الدور الهام الذي قاموا به , وهذا الدور الايجابي لا يعني ايضا ً انه لا يوجد للمستشرقين اي دور سلبي.
هل نتحدث عن تحقيقهم للمخطوطات القديمة والتي تعتبر من امهات الكتب في التاريخ والتراث العربيين ؟ ام نتحدث عن تلك المخطوطات المنتشرة في المكتبات الاوروبية؟ هل يستطيع العرب والمسلمون الذين ينتمون للحضارة العربية والاسلامية القيام بكل تلك الجهود في هذه السياقات العربية المتردية؟ كيف يمكن لنا ان نتحدث عن (جوزيف شاخت) وتلك الجهود التي بذلها في تحقيقه للمخطوطات الكثيره والهامه؟ وغيره الكثير من المستشرقين المتعددي الجنسيات. في الواقع لا يمكن ان نضع الجهود التي قام بها المستشرقون في كفة ٍ واحده فهناك ايضا ً الدراسات اللغوية والعلمية فيما يتعلق باللغة العربية والعلوم التي نشأت في الحضارة العربية ابان عهدها الذهبي مثل علوم الفلك والرياضيات والمنطق وغيرها , هذا ناهيك عن الرحلات والاستكشافات الاثرية. لقد بذل المستشرقون جهودا مضنية ساهمت في اعادة تاريخ الحضارة العربية الاسلامية الى وضعه التاريخي والذي لولا هذه الجهود لظلت الفجوة المعرفية قائمة ومستمرة في التاريخ البشري العام.

المنهج الفلسفي وانعدام اليقين:-

في الملمح الثاني من ملامح هذه القراءة قلنا بأن هناك اختلاف منهجي كبير بين الرؤيتين, فالمنهجية (الاركونية) فلسفية وتاريخية وألسنية مرتبطة بعلم النفس و السيميائيات وغيرها, في حين ان منهجية القراءة(المحرمية) , هي ذات رؤية دينية فقهية مذهبية. تتحدث القراءة (المحرمية) عن ان (هناك خلط بين دوائر المعرفة اليقينية والمعرفة الظنية) يتعلق هذا الخلط طبعا بالمنهجية (الاركونية) كما ترى الرؤية المحرمية.

في البحث الفلسفي لا يمكن بأي حال ٍ من الاحوال الحديث عن يقين, فالفلسفة بحث وتساؤل دائم.اسلوب في التفكير غير نمطي, حفر, تقصي, نبش, اكتناه للمجهول,رحلة معرفية مستمرة,انها اللايقين الدائم على المستويات المعرفية والتاريخية. في حين ان الرؤية الدينية تهدف الى وصول الكائن البشري لليقين والسكون والطمأنينة, ذلك ان الرؤية الدينية تمتلك كل شيء, كما يرى انصار هذه الرؤية, وبما انها تمتلك كل شيء يصبح السؤال بمثابة العتبة الاولى للدخول الى المحظور والممنوع. تنطلق الرؤية(المحرمية) مثلها في ذلك مثل الرؤية الدينية بشكل ٍ عام, تنطلق من قاعدة فقهية تنظر للوجود بمعزل ٍ عن السياقات والتفاعلات التاريخية الطبيعية التي تحدث في المجتمعات بإختلاف التصنيفات , وصراع الطبقات والمصالح واختلاف الايدلوجيات. انها رؤية مثالية تسقط على الفاعليين الاجتماعيين صفات تجعلهم بعيدين كل البعد عن الكائن البشري بشكل ٍ عام. فإذا اتينا للتواتر وشروطه, نجد ان الشرط الرابع وهو "استحالة التواطوء على الكذب", ومعنى ذلك ان هذه المجموعه لا يمكن ان تمارس الكذب والاختلاق وذلك لمعصوميتها ولعددها وصفاتها. تختلف هذه الرؤية المثالية عن تلك الاختلاقات النصية والمعارضات التي تحاول ان توقف من مسيرة الدعوة المحمدية عن طريق وسائل وطرق متعددة.

تقول الرؤية(المحرمية) ما يلي"فلهذا يجدر بنا ان نصف الاخبار التي اجتمعت عليها الامة بإنها اخبار متواترة بينما الاخبار التي يرويها اهل مذهب واحد مهما كثر عددهم ولا يرويها غيرهم من اهل المذاهب الاخرى بأنها مشهورة مذهبيا ً" نتسائل هنا عن تحقق"الاخبار التي اجتمعت عليها الامة" هل وجدت هذه الاخبار؟ هل تواترت الامة على خبر معين مهما كان هذا الخبر؟ قد تكون الوحدانية هي المسألة الوحيدة المجمع عليها, اما فيما عدا ذلك فمن الصعوبة وجود ما يسمى بالتواتر او الاجماع.
في فقرة "جمع القرآن وترتيبه" تنكشف اهداف الرؤية(المحرمية) او اهداف القراءة(المحرمية) , ف هذه الرؤية وصلت لنتيجتين: الاولى: ان هناك خللا ً في الرؤية (الاركونية) تجاه النقاط السابقة. ومصدر هذا الخلل هو- وهذه النتيجة الثانية- ان(اركون) لم يستصحب اليقين المعرفي بل انطلق من مرويات انفردت بها مدرسة اهل الحديث التي تزعم ان جمع القرآن تم بعد وفاة النبي.
لم يكن هدف هذه (القراءة) اذن مناقشة افكار(اركون) بكل موضوعية وحياد بل الهدف كما هو واضح تبخيس الرؤية (الاركونية) عن طريق القراءة المذهبية (لأركون). ما اقصده بكل وضوح ان القراءة (المحرمية) عاملت (اركون) برؤية مذهبية وليس برؤية ٍ معرفية. تلبس هذه القراءة ثوب المعرفة وتتقمص الرؤية الموضوعية في حين ان الرؤية المذهبية هي المحور الاساسي لهذه الرؤية.
تتحدث الرؤية(المحرمية) عن ان هناك اشكالات وقع فيها (اركون) نتيجة لعدم اخذه بالرؤية الاباضية فيما يتعلق بجمع القرآن , وهذه الرؤية محقة في هذه النقطة, فعلى مدى الاعمال (الاركونية) لم يتطرق للرؤية الاباضية, ولكن ذلك ليس حصرا ً على (اركون) فقط. فهناك الكثير من المفكرين مثل (محمد عابد الجابري) و (نصر ابو زيد), لم يتطرقوا الى هذه الرؤية, فلماذا الحديث هنا فقط عن(اركون) واهمال بقية المفكرين؟ الا يجدر بالقراءة (المحرمية) ان توضح وجهة نظرها بالتعارض مع المفكرين السابقين ذكرهم وغيرهم ايضا ً و عدم حصرها مع(اركون)؟

لم تطرح الرؤية (المحرمية) اسئلة حول الاسباب التي ادت الى عدم الاخذ بالرؤية الاباضية من قبل(اركون)؟ هل هذه الاسباب تتعلق بالباحث وميوله الذاتيه ام بالتراث الاباضي المجهول حتى في الارض لتي نشأ فيها هذا التراث؟ الا تتعلق هذه النقطة بالمؤسسات الراعية لهذه الرؤية ودورها في ابراز هذه الرؤى بشكل ٍ إعلامي ومعرفي كاف ٍ ؟ لماذا لم تتطرق هذه القراءة إلى ذلك الدور الذي يمارسه الفقهاء الاباضيون وحصر جهودهم في إصدار الفتاوى والتحليل والتحريم(تشمل هذه النقطة جميع الفقهاء, أي إنها ليست حصرية) مبتعدين في ذلك عن التجديد المعرفي أو الكشف المعرفي في اقل الأحوال؟

ثم قبل ذلك هل توجد هناك آراء اباضية فقط ام ان هناك نظرية تتعلق بجمع القرآن؟ بمعنى آخر هل يمكن الاعتماد من الناحية التاريخية والمعرفية على الرؤية الاباضية والاحتكام اليها؟ اتحدث هنا عن الناحية التاريخية وليس من الناحية النفسية, والمذهبية؟ يجب ان لا يعمينا التعصب المذهبي عن الرؤية التاريخية التي تأخذ بالحسبان كل ما يتعلق بالتفاعلات الاجتماعية.
اقصد بالفقرة الاخيرة وبكل وضوح هل تكفي آراء واقوال بعض العلماء من المذهب الاباضي , ان تجعلنا نقتنع بما اوردوه دون اي تساؤل نقدي وتاريخي؟ اشدد هنا على كلمة آراء واقوال.

مزرعة التراث او الاسمدة السامة:-

في الفقرة الاخيرة من القراءة المحرمية والتي جاءت بعنوان( منهج اركون وصراع الهوية) يصطدم القاريء بالكثير من الاستعارات التي تعبر عن المخزون الفكري والمفاهيمي للقراءة(المحرمية) وما يحركها.

جاء في هذه الفقرة ما يلي(لقد انطلق اركون معترفا ً بمرجعيته الغربية في مزرعة التراث العربي والاسلامي لا زارعا ً لشجرها وحاصدا ً لثمرها بل ليخضدها بالتجربة الغربية على مستوى الاصل حيث العبث بالجينات والا حماض النووية, وعلى مستوى الفرع حيث استخدام الاسمدة الكيماوية السامة) انتهى الاقتباس.
من هذه الفقرة المزدحمة بالاستعارة والمكتظة بالمرجعيات والمختلطة بالتجارب نستطيع ان نكتشف اساليب وطرق الرؤية للتراث وللمنهجية (الاركونية).

ما الرابط بين التراث والمزرعة؟ وماهي علاقة المناهج بالاسمدة السامة؟ ولماذا تم اختيار هذه الاستعارة للتعبير عن الموقف تجاه المنهجية الاركونية؟
التراث عبارة عن مزرعة (لم يتم توضيح هل هذه المزرعة مهجورة ام ان هناك بقايا بعض المزروعات الجافة؟) هذه المزرعة/التراث جاءها(اركون) وبإعترافه بالمنهجية الغربية ولكن للأسف لم يأت ليزرعها او ليحصدها بل جاء للأسف ليخضدها بالتجربة الغربية ولكن هذه المرة للعبث بالجينات والاحماض النووية على مستوى الاصول , واستخدام الاسمدة الكيماوية السامة على مستوى الفروع.
المزرعة هي عبارة عن قطعة ارض قابلة للبيع والمتاجرة فهل التراث كذلك؟ في حين إن المزرعة عبارة عن ملكية خاصة لفرد معين(إلا في الحالات النادرة) في المقابل لا يمكن وضع التراث ضمن ملكية فردية إلا إذا كانت هناك رؤية جديدة تطرحها هذه القراءة (المحرمية) تجعل التراث ملكا ً لفئة معينة دون بقية الفئات و تمنحها كامل الحقوق في التأويل وقراءة التاريخ بعين ٍ واحدة وبالتالي تصادر هذا الحق عن بقية الفئات .المزرعة تشير كذلك الى امكانية الاستخدامات المتعددة السيئة والجيدة لمالكها وهنا نكتشف بأن التراث قابل للتلوّن والتعدد في الاستخدامات شأنه في ذلك شأن المزرعة. ولكن هل نستطيع التعامل مع التراث ومنتجاته كما نتعامل مع المزرعة ومنتجاتها؟ اقصد هل نستطيع إلغاء الجانب الغير مرغوب فيه من المخزون التراثي كما يتعامل المزارع مع مزروعاته, بحجة انها غير مفيدة من الناحية المادية, وبالتالي يجب الغائها ؟

تختلف الاصول اذن عن الفروع من حيث تعامل المنهجية(الاركونية) معها كما ترى القراءة(المحرمية), ف الأصول يتم العبث بها بالجينات والاحماض النووية, يعني ذلك بأن هذه الاصول لا تشترك مع اي اصل ٍ آخر, فهي منفردة, جوهرانية, ثابته, في حين ان البحث التاريخي يؤكد لنا ان (جينات) هذه الاصول تشترك بنسبة ٍ او بأخرى مع مختلف الاصول السابقة عليها. في الواقع لا توجد (جينات) تنفرد بها اي اصول دون ان تشترك في ذلك مع الاصول السابقة عليها. انها العملية التاريخية المستمرة والمتواصلة. والعبث هنا يظهر لنا بأنه لا توجد منهجية واضحة في التعامل(الاركوني) مع هذه الجينات والاحماض النووية.
اذا كان التعامل مع الاصول يتم بالعبث بالجينات فإن التعامل مع الفروع يكون بالاسمدة الكيماوية والسامة تحديدا ً. من الواضح ان الاسمدة هنا هي المناهج(الاركونية) وهي تعني في هذا السياق ان هذه الاسمدة تغذيّ الرؤى بالاسمدة السامة.

من بركان الى كهف مهجور:-

تستمر القراءة(المحرمية) في عرض الاستعارات والرؤى ففي الفقرة اللاحقة للفقرة السابقة نجد ان الفكر الاستشراقي عبارة عن بركان ساهم الفكر الاركوني في اندفاع الحمم الهجائية منه على العقل العربي. لقد كان هذا البركان خامدا ً ثم جاء الفكر الاركوني وساهم في اندفاع هذه الحمم, فالفكر الاركوني في هذه الحالة عبارة عن باعث من ضمن بواعث عديدة لهذا البركان. وفي هذه الرؤية اختزال للفكر الاستشراقي - كما سبقت الاشارة – الى عامل سلبي حارق, يدمر كل شيء امامه, ويصهر ما يواجهه. متناسيا ً في ذلك ان للبركان نتائج ايجابيه عديدة مثلما هو الحال في الفكر الاستشراقي, فهو(البركان/الاستشراق) يساهم في تخصيب الارضية المجاورة له, والقريبة منه او التي يمر من خلالها,والتراث العربي الاسلامي شاهد على ذلك برغم كل ما يقال عن الفكر الاستشراقي من سلبيات واخطاء. وهذا البركان الاستشراقي الحارق بممارساته هذه لا يريد ان يتواصل مع الشرق وتقديم الخلاص الغربي له بل يريد اظهاره بمظهر الكهف المهجور, كما ترى القراءة (المحرمية). كيف تتم هذه العملية؟ كيف يتم تحويل التراث العربي الى كهف ٍ مهجور؟ من يقوم بهذه العملية؟ هل التعددية المنهجية قامت وما تزال تقوم بهذه العملية أم أن من يرفضون هذه التعددية يقومون بهذه العملية؟

ثمة الكثير من الافكار والالفاظ الغير موضوعية في هذه الفقرة,وهي بكل وضوح تكشف عن اخفاق تحقق فعل القراءة المحايدة والموضوعية التي تمت عنونتها في مطلع القراءة(المحرمية).

في نهاية هذه القراءة الاشكالية لن نتحدث عن نهاية لهذه القراءة بل نتحدث عن امكانية بداية او بدايات للقراءات الموضوعية والمعرفية البعيدة كل البعد عن الاسقاطات الذاتية. ف هل هناك امكانيات لهذه القراءات في السياقات العربية والاسلامية المعاصرة ؟ وهل هناك امكانية قدوم هذه القراءات من خلفية دينية فقهية مذهبية حاولت ان تظهر للمتلقي على إنها قراءة موضوعية؟

طرق الخلاص بين الدين والعلمانية

" إن مفهومي (العلمنة) و(الدين) هما مفهومان ابعد ما يكونان عن الوضوح والبلورة. وبالتالي فهما غير فعاليّن. وما نقوله عنهما عادة لا يشكل خطابا ً علميا ً وانما خطاب اجتماعي. ونحن نعلم انه يوجد اختلاف كبير بين هذين النوعين من الخطابات. ذلك انه يفترض في الاول ان يسيطر على الثاني, ويبين آليات اشتغاله وتركيبتة. إن هدف الخطاب العلمي يكمن, بشكل خاص, في تبيان ان المجتمعات البشرية بدون استثناء تهدف , اولا ً وقبل كل شيء الى انكار الارضية الحقيقية لوجودها. بمعنى آخر , فإنها تهدف الى تقنيع حقيقة القوى التي تتحكم بمصيرها التاريخي عن طريق تغطيتها بواسطة قوى ملائمة لذلك(أي ملائمة لعملية التموية والتغطية على الواقع (الحقيقي)" ( [1] ).


تحديدات مفهوميه:-

من المهم جدا ً,لحظة الحديث عن مفاهيم, ملتبسة, وغير محددة, ان نحاول الاقتراب من بعض المحاولات المنهجية التي حاولت ان تضع تعريفات متماسكة تقريبا ً لهذه المفاهيم.

ما هو الدين؟

سؤال ُ مربك, بقدر ما هو ضروري, وملحّ, وخاصة في هذه الفترة الحرجة. فهو مربك اولا ً لبداهة هذا المفهوم لحظة الحديث اليومي, او حينما نتحدث بشكل ٍ تحليلي, يهدف التقصيّ, و يبتغي التساؤل. وهو ملحّ وذلك لمحاولة توسيع المفهوم, بدل تضييقه, او حصره, في نظام ٍ عقائدي واحد فقط, وبالتالي نفي كل ما يختلف مع هذا (النظام) الديني او ذاك.

نحاول الحديث هنا, عن تعريف ٍ للدين, ينطبق على جميع الديانات, من اكثرها بدائية الى اكثرها تطورا ً وتعقيداً, كما يقول (دوركهايم),لذلك ينبغي ان نبحث عما هو مشترك بين الديانات المعروفة جميعا ً,وبالتالي نسقط من حساباتنا تلك الافكار والمعتقدات التي يختص بها دين ٍ دون آخر.

يرى (اميل دوركهايم) الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي(1917-1858) , بأن كل المعتقدات الدينية, تنضوي على خصيصة ٍ عامة, فهي تفترض تقسيما ً لكل الاشياء , المنظور منها والغيبي, لزمرتين: مقدس , ودنيوي.ً
وبناء ً على هذا التعريف, وهو في الواقع, يمثل ردة فعل, على تعريف (جيمس فريزر) الانتربولوجي والبريطاني المعروف( (1941-1854, " فإننا ينبغي ان نفهم الدين, على انه عملية استرضاء وطلب عون قوى اعلى من الانسان يعتقد انها تتحكم بالطبيعة والحياة الانسانية. وهذه العملية تنضوي على عنصرين, نظري, والآخر تطبيقي عملي. فهناك اولا ًالاعتقاد بقوى عليا, يتلوه محاولات لإسترضاء هذه القوى. ولا يصح الدين-حسب تعريف (فريزر)- بغير توفر هذين العنصرين, ذلك ان الاعتقاد الذي لا تتلوه ممارسة هو مجرد لاهوت فكري, اما الممارسة المجردة, عن اي اعتقاد فليست من الدين في شيء". برغم العنصرية الواضحة, في التعريف الاخير, من حيث انه يحصر الدين, في الديانة المسيحية فقط, في حين ان هذا التعريف لا ينطبق على اديان ٍ عدة واسعة الانتشار, لا تدور معتقداتها حول ارواح او آلهة,و لا تلعب فيها هذه الذوات, والكائنات,الا ادوارا ً ثانوية.مثل البوذية التي تنطلق من فكرة رفض الإله, فهي نظام اخلاقي بدون مشرّع, وايمان بدون إله.ف البوذي يعتمد على قواه الذاتية, دون الحاجة للتساؤل عمن خلق العالم.

فالمعتقد الديني بشكل ٍ عام, هو معتقد لجماعة ٍ معينة من الناس, يقتصر عليها ويميزها عن غيرها من الجماعات, ونتيجة ً لهذا المعتقد فان الأفراد يشعرون بالترابط فيما بينهم, داخل وحدة اجتماعية معينة.

ف الدين حسب تعريف (دوركهايم), "هو: نظام متسق من المعتقدات والممارسات التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي وتحاط بشتى انواع التحريم. وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين والعاملين بها في جماعة معنوية واحدة ".( [2] )

ينبغي الوقوف هنا , عند نقطة ٍ مهمة جدا ً, الا وهي ان المقدسات التي يشير اليها (دوركهايم), لا تقتصر على المجردات والغيبيات, لأن مفهوم القدسي, يمكن ان يشتمل على الموضوعات المادية والمعنوية في آن واحد. فهو يرى بأن ما يميز المقدس عن غيره, هو تغايره المطلق عن الدنيوي." ف تاريخ الاديان من اكثرها بدائية الى اكثرها ارتقاء عبارة عن تراكم من تجليات الحقائق القدسية, ليس ثمة انقطاع لإستمرار الظهورات الإلهية, بدءا ً من تجلي القدسي في شيء ما كحجر ٍ او شجر, وانتهاء ً بالتجلي الاعلى الذي يمثل لدى المسيح بتجلي الله في يسوع المسيح" كما يقول (مرسيا إلياد). في كتابه (المقدس والدنيوي) الصادر في عام ((1956.( [3] )

ولكن متى يصبح بإمكاننا القول ان افكارا ً معينة, جاز لنا ان نطلق عليها اصطلاحا ً بأنها (دين) ؟

ثمة مكونات اساسية لما يمكن ان نطلق على افكارا ً معينة بأنها دين. ف هناك مكونات اساسية للدين (اي دين) , واخرى ثانوية. سنأتي على بعضها بإختصار ٍ شديد.

تنقسم المكونات الاساسية لثلاثة اقسام : المعتقد ,والطقس , والأسطورة.( [4] )
في حين تنقسم المكونات الثانوية الى اخلاق وشرائع.

لا يمكن ان يأتي المعتقد, كشأن فردي , شخصي, فهو جمعي بالضرورة, ولذلك فهو يتطلب ايمان عدد كبير من الافراد به, والا اندثر وانتهى. من هنا نستطيع ان نفهم الاسباب التي جعلت مؤسسي الديانات واصحاب الفلسفات الكبرى للتبشير والدعوة لإعتناق افكارهم ومبادئهم. لذلك يتألف المعتقد من افكار ٍ واضحة الى حد ٍ ما , تأتي هذه الافكار على اشكال ٍ مختلفة, وطرق متعددة. وذلك بهدف حفظها , من قبل اكبر عدد من المعتنقين لهذه الاعتقادات.

اذا كان المعتقد الديني يرسم صورا ً ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوالم المقدسة فإن الطقس يأتي , كترجمة سلوكية لهذا المعتقد. نتسائل احيانا ً , لماذا لم تتحول بعض الافكار والتي كان لها تأثير كبير على العديد من الفاعلين الاجتماعيين, لماذا لم تتحول الى دين؟ على مر التاريخ نجد ان بعض الحركات الفكرية, والتيارات الفلسفية, قد استقطبت الكثير من الاهتمام, ولكنها لم تستمر لفترة طويلة من الزمن. بل انتهت بعد فترة غير طويلة من نهاية مؤسسيها, مما يجعلنا نتسائل, حول اسباب هذا الانهيار لبعض هذه التيارات الفلسفية. ربما من اهم الاسباب التي جعلت بعض الافكار والفلسفات تندثر , وفي المقابل نجد غيرها مازالت مستمرة وباقية, ان الطقس المقنن الذي يتم تدارسه عبرالاجيال, ومحاولة وضعه في تنظيرات, بل ومحاولة خلق مبررات , واسباب متباينة,لضرورته, ونفي ما عداه, كل ذلك وغيره يرسّخ احقية بعض المعتقدات, في الاستمرارية, ويرسخ كذلك عدم وجود اية اهمية للمعتقدات المختلفة. وللتدليل على هذه الفكرة الاخيرة : لنأخذ الوطنية كمثال, وكيفية ترسيخها بشكل ٍ يومي ودوري كل صباح, نجد ذلك واضحا ً في تلك الطقوس اليومية التي تمارس حسب اختلاف الامكنة, وتباين الازمنة, ولكن الشيء الثابت هو كيفية ترسيخ هذه الفكرة, وغيرها, بشكل ٍ طقسي , ويومي, يصاحب ذلك العديد من الفعاليات المختلفة.

عندما تتوافر العناصر السابقة, في نظام ٍ فكري او فلسفي ما, فإن ذلك لا يعني باكتفائه, أو انه قد اصبح دينا ً, بل ثمة شروط اخرى مهمة اساسية, ينبغي ان تتوافرفي هذه الانظمة الفكرية مثل الاسطورة.

برغم الالتباس الحاصل حينما يذكر هذا المفهوم الاخير , وخاصة حين الحديث عنه , بوصفه مكونا ً رئيسيا ً من مكونات الدين(اي دين). وبرغم المؤلفات الكثيرة, والتي تبحث في هذا المفهوم وتشابكه مع العديد من الدلالات الاخرى, الا اننا هنا , ومنعا ً للإطالة, سنأتي على ذكر ٍ بسيط ومختصر لهذا المفهوم.( [5] )

يختزل الدين في خطاباته المتعدده, ابعادا ً مختلفة, وهو (الخطاب الديني) يقوم بذلك بهدف التأثير على المتلقين عن طريق اكثر من اسلوب. تأتي الاسطورة هنا , كمفردة تختزل العديد من الدلالات الايجابية والتي تضع الخطاب الذي يستخدمها في مستوى عال ٍ من القدرة على التأثير.

يمكننا تعريف الاسطورة , بأنها "حكاية مقدسة مؤيدة بسلطان ذاتي"([6]), ومعنى كونها تمتلك سلطانا ً ذاتيا ً, اي ان هذه السلطة التي تمتلكها , تكمن في بنيتها الداخلية, وليس نتيجة ً لعوامل خارجية, من ذلك اسلوب صياغتها , بل وكيفية مخاطبتها للجوانب الانفعالية الغير عقلانية في الكائن البشري.

فالاسطورة الى جانب امتلاكها, لصفات ٍ ذاتية, داخلية, تتصف بأنها من الادب الرفيع , فهي تتحدث عن آليات الخلق الاولى, وعن كيفية, واسباب, نشوء الثنائية الكونية الازلية: الخير والشر. فهي لا تكتفي بأنها تتحدث عن بعض الاحداث , بل انها مصدر لرؤية ٍ جديدة , ومختلفة, للكون, ولأسباب نشوئه.

لذلك لا يخلو اي دين, من بناء ٍ اسطوري, يضعه في مكانة عالية, ورفيعة, غير قابلة للمحاكاة والاتيان بمثلها. حتى وان تعددت المسميات, وتباينت الرؤى حول هذا النوع من الحكايات والقصص, التي تحكي لنا عن تواريخ ماضية, واحداث سابقة.

من المكونات الثانوية للدين , ( هذا لايعني بأي حال التقليل من اهميتها, بل انها مرتهنة للسياقات الاجتماعية والتاريخية بشكل ٍ كبير ). نقصد بذلك الأخلاق والشرائع. في البدايات الاولى للدين(اي دين) , لا تتبلور اي الاخلاق والشرائع, الا بعد فترة غير قصيرة, من نشوئه.( [7] )
من الواضح تاريخيا ً, ان هناك ارتباطا ً كبيرا ً, بين الدين والاخلاق , ولكنهما في المقابل, ثمة تمايز فيما بينهما, يجعل من الممكن انفصال واحدهما عن الآخر , او ارتباطهما , ايضا ً بشكل ٍ وثيق.
اذا اردنا ان نضع تعريفا ً تقريبيا ً للأخلاق فإنه بإمكاننا القول انها: قواعد وممارسات تنظم سلوك الافراد تجاه بعضهم, وهي تنشأ لحل المشاكل الناجمة بين الافراد. فالاخلاق, حسب هذا التعريف التقريبي , هي شأن دنيوي صرف , ناتج عن التفاعلات اليومية المباشرة للكائن البشري, وليست ناتجة عن تعليمات او اقتراحات قادمة, من الدين , كمنظومة شمولية ( حسبما حال بعض الاديان) , الا ان ثمة علاقة معقدة تنشأ بين الدين والاخلاق , حتى ليخيّل لنا انهما متلازمان , او ان الاخلاق نتاج طبيعي للدين, او جزء رئيسي منه.

هذه هي بإختصار ٍ شديد, المكونات المفاهيمية للدين, وهي كما رأينا, مفاهيم عامة, اي انها لا تقتصر على دين ٍ معين, يختص بمثل هذه المكونات عن غيره, او يحتكرها. قد تختلف, نوعية وحجم المحرمات, من دين ٍ لآخر , ولكنها في العمق, تحاول ان تضع بعض الحدود والحواجز,وتنشيء بعض المحرمات.
وكما هو واضح, انه لاتوجد تعريفات واضحة ومتفق عليها للدين, ذلك لأن هذه المفاهيم تنتمي للعلوم الاجتماعية, الغير ممكنة الحصر , والتحديد.
من المهم جدا ً القول بأن ما يعنينا من الدين هنا, هو تلك المنظومة المعقدة, من الاعتقادات واللااعتقادات, اي انه يثبت اعتقادات معينة , في حين يقصي او ينفي اعتقادات اخرى. وهو في ذلك, يسعى لخلق طريق لخلاص الكائن البشري, سواء ً على المستوى الدنيوي او الاخروي, يتلخص هذا الطريق, في اتباع (الاقتراحات) المرسومة سلفا ً, من قبل النصوص الدينية, و هذه الاقتراحات, متشابهة في جميع النظم الدينية, مع اختلاف طفيف في كيفية الممارسة, مما يجعلها تلتقي في طريق ٍ واحد مع الاخذ في الحسبان عند البعض, مصدر هذه الاقتراحات.

ما هي العلمانية؟

دار جدل, معرفي وايديولوجي, كبير, وبشكل ٍ خاص في (العالم العربي والاسلامي) حول هذا المفهوم. نرى احيانا ً بأن هذا الجدل ناشيء عن تاريخ المفهوم, و مكان نشوئه, والنتائج التي ادت نتيجة ً لإتباع هذا المفهوم, من نقد ٍ للدين, بشكل ٍ معرفي, داخلي.
لقد نشأت مواقف متباينة, فيما يخص هذا المفهوم, وربما من الممكن حصرها في ثلاثة مواقف, بارزة :اولاً: الرفض لهذا الموقف ونتائجه. ثانيا ً: الحذر من الخوض فيه. ثالثا ً: ضرورة العلمنة.
فاذا تجاوزنا , هذا الجدل(برغم اهميته), وركزّنا, على الاسس التي تقوم عليها العلمانية, مع بعض التوضيحات الضرورية, والمهمة حول هذا المفهوم, فإن بإمكاننا القول, بأن (الاسس الفلسفية للعلمانية)([8]) , وربما الاساس الاهم في العلمانية, هو (القول بأسبقية العقل على النقل). وجعل الفكر الذي يكتسبه الكائن البشري, مسؤولا ً مسؤولية ً كاملة, نتيجة ً لأفعاله.
فإذا اردنا ان نقيم, مقارنة بين العلماني وغير العلماني, نستطيع القول, بأن الاول هو ذلك الكائن الذي يتخذ من الاعتبارات العقلية, الاساس الاول والاخير لحظة اتخاذه للقرارات, في حين ان الاخير(الغير علماني), يتخذ من الاعتبارات الاخرى(دينية/ نصية واجتماعية), مسوغا لقرارته اليومية.
من المهم جدا ً القول هنا , بأن العلمانية, ليست ديانة تدخل في تنافس, مع الاديان الاخرى, ولكنها موقف فكري, يضع العقل كأساس ٍ اول لكل شيء, ولا يرضى عنه بديل. ويجعل النص كتابع ٍ للعقل.
وهي الى جانب ذلك , لا تعني الالحاد(لا توجد نظرة سلبية عن الالحاد هنا) , بأي شكل ٍ من الاشكال, فهي لا تهدف إلغاء الدين, او نفيه, بقدر ما تهدف الى تنقيته من الكثير من الشوائب, ومعظم الاضافات التي الحقت به, عبر التاريخ, وذلك من خلال سلوكيات , او اقوال وفتاوى الفقهاء, او ممارسات المؤمنين به.

استمرار حالة اللاحسم:-

اتخذت حالة اللاحسم , او وضعية التأرجح هذه , بين قطبي الثنائية, العقل او النقل, او الروح والمادة, وغيرها من الثنائيات, اتخذت هذه الحالة, وضعيات مختلفة, ومسميات متعددة. نجدها احيانا ً تحت مسمى(الجمع) كما هو حال (الفارابي) , الذي نجده واضحا ً في كتابه (الجمع بين رأي الحكيمين) (المقصود بالحكيمين هما افلاطون وأرسطو) , وكذلك نجد هذاالمسمى, لدى (ابن رشد) , حيث انه يستخدم هذا المسمى في كتابه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) , كذلك نجد لدى المفكر والفقيه الحنبلي(ابن تيمية) , نفس المعنى وان كان تحت مسمى ً مختلف , فهو يستخدم مفردة (الموافقة) , لوصف نوعية العلاقة بين مفهومه للمعقول ومفهومه للمنقول في كتابه(موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) , وان كانت نبرة اخضاع الاول للأخير متضمنة في العنوان.
في حين اننا نجد هذه الرغبة في الجمع او التوفيق, متضمنة لدى بعض الادباء والمفكرين مثل (التوحيدي) , ونجده لدى فيلسوف ك (ابن سينا) , ونجد ذلك ايضا ً لدى جماعة (اخوان الصفاء) في قولهم بضرورة الجمع بين الفلسفة اليونانية و الشريعة الاسلامية للحصول على الكمال , عوضا ً عن الاقتصار على مجال ٍ واحد.

لا تقتصر حالة التأرجح هذه على المفكرين والادباء العرب القدامى, بل هي ظاهرة موغلة في القدم, وهي ايضا ً لا تقتصر على المجال الفلسفي فقط , بل اننا نجدها ايضا ً في المجال الديني.
تأتي التوفيقية في العمق, كمحاولة للتوفيق بين ما هو منطقي عقلي واضح البرهان, وبين ما هو شعوري باطني(غنوصي).

نجد حالة اللاحسم , او التوفيقية, كما اصطلح عليها فيما بعد([9]), حينما حدثت المواجهة بين العقل الهيليني(الاغريقي) والتقليد الديني العبراني في القرون السابقة للمسيحية, والتي نشأت عن الحاجة للتوفيق بين العقل والايمان. كانت هذه المحاولة التوفيقية , على يد (فيلون) , الذي حاول التوفيق بين النص الديني(التوراة) , والفلسفة اليونانية والتي تمثل الحقيقة الكونية, كما يقول (فيلون) نفسه.

من هنا نجد ان هذه الآلية , موغلة في القدم, وشائعة الانتشار, والسبب في رأي كاتب هذه السطور هو: انها كانت حاجة ضرورية, تهدف لتجاوز بعض الافكار , عن طريق التوفيق بين المتناقضات, ومحاولة الاخذ من كل مجال ٍ معرفي , بما يخدم الوضع القائم آنذاك.لقد واصلت هذه الآلية التوفيقية, ظهورها , واستمراريتها , في المجال الفكري , والفلسفي, العربي المعاصر, وذاك في عهد (محمد عبده) , ومن كان في عصره, وزمانه.
من الواضح, ان هناك ظروف زمانية, ساعدت في, ازدهار هذه الحركة الفكرية, وان كان البعض قد حاول المضّي لما هو ابعد من ذلك , وذلك عن طريق تبنيه, للعلمانية ,كوسيلة فكرية, تصلح الاوضاع السائده في ذلك الوقت, الا ان التراجع عن العلمانية, كان من نصيب هذه الافكار, والرؤى.مما جعل التوفيقية, ك طريقة مريحة ولكنها غير مجدية, للتغيير, والخروج من الاوضاع السائده,

ثمة ثلاث طرق, او اختيارات, من الممكن للكائن البشري ان يسلكها ليعدّل, او ليغيّر من اوضاعه الحياتية,ألا وهي: الدين, العلمانية, او التوفيق بينهما.
لقد تم التعامل مع الخيار الاول(الدين) , منذ ازمنة بعيده, وهذا التعامل, انتج العديدد من الايجابيات والسلبيات المرافقة, وهي نتائج طبيعية, اذا اخذنا في ذلك السياق المنتج لهذه النتائج, من نصوص, ووقائع متغيّره, وافهام مختلفة. وهذه النتائج, هي نتائج تاريخية, مرتبطة بأزمنتها, وامكنتها, اي انها غير قابلة للتعميم.
في حين نجد ان التوفيقية, وهي حالة من اللاحسم المستمر, قد تم استهلاكها, وقد انجزت في وقتها الشيء الكثير من الجدل والنقاش, ولكنها في المقابل, لم تستطع ان تتجاوز التأثير الكبير للنص الديني, وهو ما جعلها اسيرة ً لرؤية مركزية نصية, تنبع من النص الديني لتشمل الافكار الاخرى.
في المقابل, نجد ان العلمانية, حسب التعريف السابق, هي الخيار الذي لم يتم اختباره, ووضعه على المحك,بشكل جاد, ومنهجي, وخاصة ً في (العالم العربي والاسلامي) , وذلك بسبب التشويه الايديولوجي, الذي صاحب, وصولها, او لحظة استيرادها. من المهم الاشارة هنا, تجنبا ً لفهم ٍ غير مقصود, بأن العلمانية, ليست جديدة كممارسة, وتعريف, ولكنها تأخذ طابعا ً جديدا ً على المستوى المفاهيمي.
تحاول العلمانية ان تجعل من العقل ارضية ً ضرورية, للتعامل مع الوجود,ومحاولة تأويله, وكيفية التعامل معه. وهي على هذا الاساس, لا يمكن ان تلتقي, او تتوافق, مع الدين, بشكل ٍ نهائي. والسبب في ذلك ان الدين, بشكل عام, يتخذ النص كمرجعية اولى, واخيرة.فهو(الدين), يرفض او يقبل كل ما يتناسب مع النص فقط.
من الضروري هنا, الحديث عن كونية العقل, وعالميته, ونسبية الدين, ومحدوديته. ومعنى هذه الاشارة الاخيرة, ان العقل, كأساس ٍ ضروري للعلمانية, من الناحية المعرفية, قابل للتطبيق , في نتائجه, ونظرياته, قابل للتطبيق على مختلف الازمنة والامكنة (انظر العلوم الطبيعية: الرياضيات, الفيزياء,الكيمياء,الاحياء...).
ما نريد قوله هنا, او التركيز عليه, في هذا الموضع, هو ان التفسير العقلاني, والرؤية السببية, للوجود. وآليات سيره, وكيفية النظر للنصوص, وقراءتها, يعتبر ضرورة وجودية, لا مفر منها, وان تلك المحاولات الساعية, لإضفاء البعد الديني, على الحوادث الوجودية, اليومية, هو ما يمكن تسميته:
ب( نفي العقل).
وهذا النفي, لم يكن بلا نتائج مصاحبة, فهو(النفي), بقدر ما يضع الكائن البشري, في مجال ٍ واسع من التأويلات, والتأويلات المضادة, الا انه في العمق, يضع هذا الكائن نفسه, وبمحض ارادته, يضعه, في مجال المنفعل, المتلقي, الغير قادر على المساهمة في فهم آليات الوجود, واسباب سيره, وبالتالي يضع نفسه في خانة, العجز,وعدم القدرة على المقاومة, او اخذ الاحتياطات اللازمة, لمواجهة اي حدث كوني.(انظر التفسير الغير علمي للأحداث الطبيعية: زلازل,اعاصير,... وغيرها).

ان التفسيرات الدينية السائدة لهذه الاحداث الكونية الطبيعية, هي في عمقها, تطرح امامنا,وبكل وضوح وجلاء , نوعا ً من الازدواجية, الغامضة الانتقائية: ففي حين ان هذا الكائن البشري, يستخدم العلاقات السببية, المنطقية, الواضحة, في حياته المباشرة وتعاملاته اليومية, فإنه وبمحض ارادته, ينفي هذه العلاقات السببية, حينما يتعلق الامر بالوجود والكون, والاحداث الطبيعية.وهي (التفسيرات الدينية السائدة) , في رأي كاتب هذه السطور, تساهم بشكل ٍ واضح ومباشر, في إبطاء , او ايقاف , مساهمة الكائن البشري , في هذه المحاولات المستمرة , للإرتقاء بذاته, ومحيطه, لتجعله في حالة ٍ من الجمود والتخلف. وتجعله في حالة ٍ من الانتظار الدائم ,والمستمر , لما يحدث من اطراف ٍ وقوى , متعددة. فكل شيء يحدث, حسب التفسيرات الدينية بالطبع, يقع في خانة, الحتمّي, والغير قابل للمقاومة, او التغيير, في افضل الاحوال. وحسب هذه النظرة, فإن ما يجب فعله, هو التعامل مع الاحداث بعد وقوعها, وليس قبل ذلك. بمعنى انه بالرغم من التقدم الذي تحرزه, العلوم الطبيعية, يوما ً بعد آخر, في مجال التعامل, مع الكون, وآليات تفسيره, وكيفية التعامل معه, فإنه ونتيجة ً لهذه التفسيرات, فإنه يجب الانتظار, لما يحدث.

نمطية التفكير الفاعلة

ثمة انماط فكريه, تتصارع على الراهن الزماني والمكاني, هذا الراهن العجيب والمضطرب, الذي يسير بطريقة غير قابله للتنوع والتعدد. تحاول هذه الورقه ابراز فكرة: ان النقائض تتقاطع في سمات مشتركه فيما بينها, برغم بعدها الظاهري, الا انها في عمق الاسس والركائز , فهي تشترك في سمات عديده, ومتنوعه.بالاضافة إلى ذلك فأن هذه النقائض , قد تبوأت , وحازت , مكانة عاليه , بسبب ظروف وحيثيات مختلفه, في راهننا المعقد.يتم التركيز هنا, على شخصيتين بارزتين فاعلتين , هما (شارون) و(ابن لادن). في البدء سيتم التركيز على المنطلقات, والاسس المشتركه فيما بينهما,مع تبيان الاختلافات الاخرى,لنصل بعد ذلك إلى نتيجة هذه الاسس بالاضافه إلى عوامل اخرى, وهي نتيجة غير حتميه , بمعنى ان هناك نتائج اخرى , ممكنه او محتمله, ولكنها مغيّبه بحكم هذه النمطيه الفاعله.يعرف كاتب هذه السطور بأن هناك مساحة كبيره, من الرؤى والاختلافات بين الشخصيتين, وهذه الحقيقه ليست غائبه, ولكن هناك ايضا, ارضيات وثوابت, واسس, تفوق مساحة الاختلافات والبواعث المؤديه لهذا التغير الفرعي.المنطلقات الرئيسيه:-لا يمكن القول, بأن هناك اسساً ومنطلقات, باعثه لهذه النمطيه من التفكير, والفصل هنا سيكون تعسفيا, وساذجا , وغير مبرر. فاذا قلنا بأن النص المقدس هو المهيمن, دون الراهن الحالي واكراهاته وتعقيداته, ونفينا تأثير السلطات الاخرى كالسلطة الماليه والسياسيه, نكون قد اختزلنا الواقع إلى اجزاء , ناقصه ومبتوره.عندما نريد تحليل هذه النمطيه الفكريه الفاعله, فأننا سنطرد تلك التقسيمات بين واقع ونص, او ثابت ومتحول, ولكننا نستحضر في المقابل آليات التأويل , واساليب القراءه, للنصوص والوقائع. وهذه الجدليه المتداخله بين فرض الواقع على النص تأويلا معينا, او العكس. ( ليس مهما هنا ان كان يتناسب , هذا التأويل مع النص ام لا).يقسر الكائن البشري النصوص الكبيره, دينيه ام فلسفيه, يقسرها لرغباته وطموحاته, لآرائه ورؤاه. هذه القسريه في التعامل مع النص, ليست تلقائيه, بل ضروريه, وانما تأتي كشرط من شروط البقاء للكائن البشري, واسلوبا من اساليب الهيمنه على الواقع الذي اصبح منفلتا. في هذين المثالين (شارون) و(ابن لادن), نجد انهما يستخدمان نفس آلية التأويل, كنوع من انواع الخروج من الواقع الذي يعيشان فيه. في المثالين , نجد انهما يعيشان , واقعا متشابها في فصوله واقسامه.نجد لدى(شارون) , انه يعيش في واقع , غير صحيح, مختل, ويجب ان يعدّل. ان يزال موطن الخلل, ومكان الضعف. فالقدس , او اورشليم , ليست لغير اليهود, كما يرى (شارون), وليس للمسلمين او المسيحيين , فيها أي نصيب, برغم الادله التاريخيه والدينيه.والقدس كذلك في رأي (شارون) , وحاخاماته, او فقهاء اليهوديه, هي موطن اليهود الاصلي. كما اشار ذلك ايضا (ميل غيبسون) في فيلمه الدموي(الآم المسيح). وبما انها موطنهم الاصلي, فان أي خروج منه , لابد له من نهايه, والنهايه هي بداية الرجوع للاصل المكاني. هذه الرغبة في الرجوع للمكان الاول, لم تأت نتيجة هوى عابر, او لحظة اعجاب بالذات وامكانياتها. بل جاءت كنتيجة لتضافر القوى: التاريخيه والدينيه والسياسيه والماليه......في هذه الحاله تضافرت النصوص مع الواقع , والامكانيات, والرؤى المنبعثه, من كل ما يدور حولهم. فتم تأويل النصوص المقدسه : الدينيه والتاريخيه , واقتطاعها من سياقاتها الاصليه, ولصقها في واقع افتراضي مختلف.(لا اقول حقيقي, لأنه مازال في طور التكوين, أي ليس نهائيا). ليصبح هذا الواقع الافتراضي المختلف, نسخة معدله , او ظل للصورة الاصليه , كما وردت في النصوص المختلفه. وهذا جزء من تاريخ الاديان كما جاءت به. نلاحظ ان هناك بعض التعليمات التي وردت في النصوص المقدسه, للإعلاء من شأن الجماعة اليهوديه , وبأنهم (شعب الله المختار) , المفّضل على جميع البشر, وبأنهم ينبغي ان يعودوا لأرضهم ومسكنهم الاصلي. في حين ان , الراهن الحالي, يقول بأن هناك جماعة, قطنت/ احتلت/ لجأت/ استوطنت , المهم انها سكنت , واقامت لها صروحا, ومساكن تختص بها , وبدينها, وبمقدساتها. في الحقيقه هي ليست جماعة واحده, وانما اكثر: المسيحيين والمسلمين, على التوالي. وبأن هذه الجماعه ينبغي , ان ترحل/تغادر/تنهزم, المهم ان لاتبقى هنا. لأنها تحتل ارضنا/موئلنا/منبتنا. وبما ان التاريخ , يتسع للجميع , تقابله ضيق في نمطية الرؤيه والتفكير , فأن الصراع قد وجد ارضه ومكانه, ووجد ايضا, رجاله ونصوصه. كل شيء جاهز , او بمعنى آخر: كان التاريخ والدين والتأويل والارض. كانوا يعدون العدة الثقيله للصراع , والارث المعقد للنزاع.اذ يممنا وجوهنا, شطر (ابن لادن) , نجده , يستخدم نفس آليات التأويل, ليأتي في النهايه, حليفا , مشابها , او فلنقل مطابقا, ل(شارون). ف(ابن لادن), خرج من عالمه الواقعي , الذي نشأ فيه, الثراء والرفاهيه , ليدخل في عالم مليء بالمصاعب , والمتاعب. لأنه وجد نفسه في واقع مزدوج, غريب , غير مقبول. ينبغي ان يستبدل بآخر, طبقا للمواصفات , والمقاييس الاسلاميه, التي تغيّرت, ولكن عقلية , واضع هذه المواصفات , لم تتغير , انها مازالت اسيرة لنمطية الرؤيه التي تجتر الماضي, وتستعين به, بل وتجعله , دليلا للسير وموجها.تدّخل النص المقدس , هنا , اوادخل, واقتطع منه, ليلائم افكار ورؤى, (ابن لادن) , مثلما هو حاصل لدى (شارون). (اريد التركيز على نقطة مهمه وهي: يلائم افكار ورؤى (ابن لادن) و(شارون). وليس الواقع بعموميته واتساعه. اذن تم حصر , وتضييق للنصوص المقدسه , وتم اختزال النظر اليها كأحكام فقط, بدون مراعاة لتاريخية النص, واسباب النزول وغيرها من احكام النصوص الكبرى لدى الطرفين). هذا الادخال المتعمد, الخارج عن نطاق السيطره على الآثار والنتائج, اكسب (ابن لادن) شعبية كبيره, او اثار عليه, سخطا واسعاً , حسب رؤى المتلقي واتجاهاته. اللباس الذي يرتديه (ابن لادن) , وهيئته, ومكان وطريقة سكنه, كل هذه العوامل اكسبته مصداقية كبيره, واوسمة معنوية عاليه, مما جعلته يقود حملة كبيره لهذا الاتجاه النمطي من التفكير, والذي سيصبح بعد ذلك , سلوكا متداولاً. زهده عن الدنيا , وابتعاده عن الملذات المتاحة له, واختياره الجبال مكانا للسكن, كلها علامات رمزيه, لتلك الرغبة الكبيره , في التطابق مع العصر الذهبي للأسلام, وطمعا في استعادته, التي اصبحت بعيدة المنال, ان لم تكن مستحيله. وهو في ذلك , يوجه رسالة ,لأنصاره المحتملين , والمتزايدين, في نفس الوقت, بضرورة السير على نهجه لرفعة الامة الاسلاميه, ونصرة الدين الحنيف.هذه الاوضاع المتشابهه للشخصيتين, اثارت سخطا كبيرا, وحنقا شديداً , على ديانتيهما, والسبب هو استخدام , او اقتطاع النصوص والرموز , من هناك. (هذه النقطه ليست واضحه لدى (شارون)).الاتكاء على البعد الديني , للشخصيتين, (سواء بشكل واضح ل(ابن لادن) او بشكل غير واضح ل(شارون)) , واستخدام العلامات الرمزيه الداله على التطابق الكبير لدين معين, هو ما اعطى لها مشروعية الفعل , بالاضافة للراهن المضطرب. هذه اولى سمات التقاطع بين النقائض, وسيادة نمطية التفكير.حينما تتضافر القوى , والعوامل في راهن زماني , ومكاني, معين , بهدف تقويض واقع معين, واستبداله بواقعٍ آخر, فأنها تنجح في ذلك , او على الاقل تتمكن من بناء اسس الواقع الجديد.في وضعية (شارون) , تضافرت القوى السياسيه والاقتصاديه و الاعلاميه. سواء قوته, او ضعف الخصم , او امتلاك رؤوس الاموال العماليه , او السيطره على اهم قنوات التأثير الاعلامي. كل هذه العوامل وغيرها , اتحدت , لتردم تلك المساحه الفاصله بين القول والفعل, او احيانا تتقدم الافعال الاقوال. ويدل ذلك على هذا التضافر المتين , والتحالف الوثيق , لتحقيق الهدف المرسوم مسبقا, من اجل اخراجها (الفكره) , من الوجود بالقوه إلى الوجود بالفعل.لا تمتلك الشخصيتان, أي شيء غير ارضي, ولاتساعدهما في ذلك , أي ارادة فوقيه, فالتخطيط والتحالف, والتضافر, من انجح الوسائل والطرق على الاطلاق.لا يختلف كثيرا(ابن لادن) عن سابقه تاريخيا, اقصد الظهور التاريخي والاعلامي, اقول: لايختلف عن (شارون). ف (ابن لادن) , مع الاختلاف الطفيف في الدرجه , يحايث (شارون) , في اتباع الطرق والوسائل , للوصول إلى نفس الهدف, مع اختلاف بسيط في درجة وتركيز , هذه الوسائل. هذا الاختلاف لم يأت نتيجة لرغبة عند (ان لادن) , وانما جاذ نتيجة, لمحدودية الامكانيات , مقارنة بالإمكانيات المتاحه لدى (شارون). الامر الذي جعل (ابن لادن) قد اقتصر ظهوره , من خلال الاشرطه والتسجيلات فقط , مع قلةالافعال التي يأتي بها , وتباعدها , مما ادى إلى ان بعض انصاره القدامى بدءوا , يشككون في نزاهة افعاله , وحيادية اقواله. التخطيط وتضافر القوى , تكون نتيجتها الطبيعيه, ترجمة الاقوال إلى افعال. هذه هي السمة الثانيه لتقاطع النقائض , وسيادة نمطية التفكير.تلك هي المنطلقات المتشابكة, والركائز المعقدة, التي عندما تتحد, مع نمطية التفكير , لشخصيات فاعله ومؤثره, فأنها تنتج بالضرورة المنطقيه, اتجاها يتكاثر مع مرور الايام , يجعل نصب عينيه: انه لاتوجد وسيلة , مجديه (لاسترداد الحقوق) واستعادتها الا عن طريق واحد وهو : العنف.هذه النمطيه للطبقة الفاعله, تتسرب بشكل لاارادي , لطبقة منفعله, متلقيه. وهي(النمطيه) , اذ تتسرب فأنها بمرور الوقت تتحول إلى تيار , يتناسل, وينتج آليات لتبريره, واقصاء لغيره من الحلول والخيارات.ينبغي الاشاره إلى ان هذه الطبقه المنفعله, ليست ساذجه , وبليده , بل هي متفاوته في جميع التيارات والاتجاهات. وهي (الطبقه) , اذ تتلقى هذا الاتجاه, فذلك نتيجة إلى انغلاق افق الخيارات والتنوع, على جميع المستويات اهمها: الفكريه والسياسيه.اصبح العنف لدى هذه الطبقة المنفعلة, متنوعا , متعددا, يتخذ أشكالا كثيرة , وصيغا متعدده, ولكنه في المقابل بقي محصورا في إطار الرؤية الضيقة لكيفية التعامل والتخاطب. تنبغي الإشارة هنا, إلى ان هذا الطريق الوحيد الذي سلكته الشخصيتان واتباعهما, لم يأت الا بنتيجة معاكسه, ضديه. فالعنف لا يولّد الا مثله, او اشد. والعدل كذلك. والحوار القائم على نوع من تبادل الرؤى , لا ينتج عنفا , وإنما ينتج تقاربا, ورؤى , تتجه إلى الاختلاف الغيرعنيف. ترى الشخصيتان , انه لكي يتم (استعادة الارض) و(استرداد الحقوق) , لاتوجد طريقة افضل من القتل, وفي ذلك تهميش, واستبعاد لخيارات اخرى , اقل كلفه, واقل وحشيه. هذا الاستبعاد لأنماط متعدده , واستحضار نمط واحد , معين , يكشف ان هذه العقول الفاعله, لاترى الا بما تملك, وماتفتقده لاتراه. هناك جوانب تم اقصاؤها. الاموال المهدره من اجل احراز التقدم الارضي بالسلاح, كان من الافضل(في حالة ابن لادن) , ان تسيثمر في عقول البشر , المطلوب توعيتهم , وليس في اجساد(الضد) و (النقيض). فالعنف لايولدّ الاعنفا. وما هو حاصل الآن , ان الخناق يضيق كل يوم على المنتسبين, او المنتمين, لديانة هاتين الشخصيتين , دون ادراك ان رؤية , هذه الطبقة الفاعله , قد تسربت بشكل لاإرادي احيانا , وارادي مقصود , احيانا اخرى. لتصبح هذه الرؤيه , سلوكا يتبع من قبل طبقة منفعله , مغلوب على امرها. وهو ما ينذر بأن القادم اسوأ , واعنف , وربما اكثر وحشية وهمجية.

الاختلاف x الاختلاف

يمر العالم بأسره، بأزمة معنوية طاحنة،غير مسبوقة، وهي لا تقتصر على مجال دون الآخر، فهذه الأزمة شاملة، متشعبة. هذا ما تثبته الأحداث المتتالية، والوقائع المتسارعة، على جميع الأصعدة، والمجالات. تراهن هذه الورقة، على أن أهم أسباب هذه الأزمة، هي أزمة التعاطي مع الأفكار، والتعامل معها. سواء كانت هذه الأفكار، أفكار الذات أم أفكار الآخر. بطبيعة الحال، لا تتناسب أفكار الذات مع أفكار الآخر، وإلا أصبح الآخر ذاتا. وانتهت هذه الرغبة السادية، في التعامل مع الآخر. هذه الرغبة المتعطشة، للإقصاء، والإلغاء، على المستويين الجسدي، والمعنوي. لذلك المنافس أو المتطلع للمنافسة.
احتمالات المعنى:-المعنى حجر نرد لفظي. متقلّب، مفاجئ، مختلف، يرفض السكون. والصيرورة التاريخية، هي التي تمارس عليه تلك الحيل المعنوية. فهي تقلبه، على جميع جهاته، تشرقنه، وتغربنه. وهي تذهل المتلقي، وتقلب توقعاته، تفاجئه الى حدود الإزعاج.ولذلك يأتي مختلفا، مغايرا، للحظاته السابقة، ولولادته الأولى. فهو (المعنى) يأخذ في فترة نموه، العديد من المعاني، والاحتمالات. أحيانا مع المنتج ضد المتلقي، وأحيانا مع المتلقي ضد المنتج، وأحيانا اخرى ينفرد بعزفه الغير مألوف. فيتجه الى وجهات غير معلومة، والى سياقات مجهولة. ولأن للمعنى ولادات، وللصيرورة التاريخية تأثيرات، يتضمن ذلك تأثير وتأثر، وسياقات، وخلفيات باعثه، تنتج المعنى وتهمش الضد والنقيض. فأن الرغبة في امتلاكه، ازدادت، وتعاظمت، وسخر لها من الطاقات والإمكانيات، مما يجعل المرء، حائرا في، طرق التفكير، وأساليب التدبير، ورغبة التدمير. ورغبة الامتلاك المعنوي، ليست بلا تضحيات، وليست بدون شروط، وفي المقابل هي، ليست بدون نتائج، وآثار. تأتي هذه الأسباب مجتمعة، تحت هيمنة الآخر أيا كان، وتحت سطوة الند بدون تحديد لهويته، وأساليب اختلافه.فالذات بلا آخر منافس لها، تفقد حركتها، واستمراريتها. لتتجمد، وتتحجر. لتصبح ذاتها آخرا. فتنتقل رغبة الامتلاك، من تنافس مع الآخر، الى تنافس مع الذات. فالذات تصارع، تهاجم، تتعارك، مع ذاتها حسب تطور حركة التعامل. لتأتي النتيجة : الذات صريعة الذات.لا يسلم المعنى، من انتهاكات، واختراقات، جائزة وغير جائزة، بحق أو بدونه. وذلك عائد لنتائج امتلاكه، وآثار الهيمنة عليه. فهو يرفعنا لنرتفع به، وينزّلنا لننزل به، وله. يذهب بنا للنعيم تارة، و للجحيم تارة اخرى. يتلوّن كما نريد أو نرغب، ونتلّون كما يريد هو أو يرغب. يمارس علينا لعبة الأسئلة، وننخرط معه في مآزق الا جوبه.لذلك فهو مشاع، بدائي، للجميع، مستعصي على التملّك. وهو في المقابل، خاص، فرداني، قمة في الأنانية. لا يأتي من جانبين، أو من فاعلين، بل لكل فاعل معناه، ولكل مفعول معناه.
تجليات المعنى:-يتجلى المعنى هنا ، كالسراب. نراه ولا نلمسه. نلهث وراءه، ولا نلحق به. يقودنا الى غياهب المجهول، متوهمين انه يتجه بنا للمعلوم. يتحربن، يتخفى، يتظاهر. يأتي كما نريد ومثلما نكره.نلمس النتائج المترتبة، على امتلاك المعنى من خلال هذه الصراعات، وتلك النزاعات. قديمها وحديثها. مقدسها ومدنسها. ما يستند على أساس متعالي. وما يتوكأ على أساس متوازي. تدور هذه النزاعات، في ظاهرها السطحي، حول أمور متغيره، وقضايا متبدلة، وهي بأسماء مختلفة، ونعوت متباينة، أضفى عليها الكائن البشري، آيات التقديس حينا، وإشارات التدنيس حينا آخرا. تأتي أحيانا تحت مسمى الدين، ونصرته، والإعلاء من كلمته، والتضحية لأجله، بكل ما تملكه اليد وما لا تملكه. لا فرق هنا بين دين سماوي، أو دين وضعي. فالمقدس يبقى مقدساً، وله أنصاره وأعوانه، قد يتقلصوا، وقد يتمددوا، حسب حرارة الطرح الإيديولوجي. وتأتي أحيانا، على شكل الدولة، أو الأرض/المأوى. وهي موطن النشأة الأولى، ومكان التحليق لمتاهات الحياة، ومنحدراتها. وهي الا رضيه الصلبة، لمنشأ الطموحات، وانبثاق التطلعات. تتجلى هذه الصراعات ثالثا، على شكل الدالة الثالثة / الدنيا.وهي الموئل الأكبر، للمغريات، والمؤثرات، في الدالة الثالثة تجتمع النقائض، وتتقارب المتنافرات، لأهداف كثيرة، ومطامح متعددة.هذه هي الأشكال الثلاث الأبرز، للصراعات والحروب، وهي في حقيقتها، ليست الا أشكال ، ودوافع، تتجلى على شكل أقنعه مقدسه كالدين والدولة، واقل تقديسا، كالدنيا ومغرياتها. لكن في عمق هذه الأشكال، وتحت هذه الاقنعة، نجد المبرر الحقيقي والأكبر لكل ما يجري، أمام أعيننا، من خلال الوسائط المتعددة، التي عن طريقها تصلنا الأفعال، وردودها. والمقصود بالمبرر الحقيقي والكبير هنا : المعنى.
استثمارات المعنى:-لا يتجه المعنى، اتجاها آحادي الجانب، سواء أكان سلبيا أم ايجابيا. بل هو يتعدد، يتشعب، ويتناسل، حسب السياق العام الموازي لنموه، ونشأته.الكائن البشري، هو الذي يخلق المعنى، يوجهه، وأحيانا يؤدلجه، يضفي عليه أفكاره، ويسقط عليه أوهامه. يحتفي به حينما ينفذ مآربه، يطمسه عندما ينقلب عليه.المعنى إذن رهين المحبسين، الكائن البشري، والسياق. قد يصبح المعنى خلاقا، حينما يوجهه الكائن البشري، نحو الأهداف النبيلة، والغايات السامية. ويساعد في ذلك السياق العام الموازي لنشأته، ونموه. مما يجعل المعنى المضيء يلد معان اخرى مضيئة،تشع على ماحولها، وتنير جنباتها. لتتناسل وهكذا. وفي المقابل يصبح المعنى خافتا، منزويا، لا ينتج الا التهميش، والإقصاء، للذات والآخر. وفي الحالتين، يعبر عن حالة من الاستثمار السلبي والايجابي، على التوالي.
إفلاس المعنى:-يصاب المعنى بالإفلاس، على غرار الاسواق المختلفة. وذلك حينما يقل الطلب عليه، في مقابل زيادة معروضات الاستهلاك. وهذه المعروضات الاستهلاكية، تتصف بسهولة، الوصول إليها، والاستحواذ عليها. في حين أن المعنى، مرهق، متعب، عنيد، لا يسلّم نفسه الا لمن يريد، أو بمعنى اصح، الا لمن يستحوذ على أدوات الامتلاك، وأساليب الهيمنة، وطرق السيطرة. في الأيام العصيبة، من تاريخ الأمم والشعوب، وبشكل اخص، عندما تتعرض هذه الأمم لانتكاسات، وانكسارات، وتحاول الخروج، منها بدون جدوى. تتكسر المحاولات، وتتحطم الجهود. لتنتج فوضى دلالية، وتخبط رمزي شديد. تختلط المسائل، وتتشابك الأولويات، لتصل هذه الجهود، لقناعة شبه تامة : إن المعنى أمامنا مفقود، والطريق أمامنا مسدود. في حين إن حقيقة الأعيان، وبصيرة الأذهان، تقول كلاما آخر. وهذه الحقيقة : إن المعنى موجود، والطريق موصود. ووجود المعنى لايعني انتفائه، ولكن قد يعني اختفائه، الآني، والظرفي. الى أن تتبصر الأذهان، وتنفض عنه غبار الأزمان. وكلمات من قبيل ( اللام عنى )، لا تنتج الا الكسل الفكري، والخمول الذهني، الذي يشعر الكائن البشري، بالراحة اللحظية، ليستيقظ على الألم الدهري. انه الأفيون الذهني. لا يمكن أن نتحدث عن (اللامعنى)، على شاكلة ( اللاشكل ) وغيرها. فالأولى تفترض، أن قولا معينا، لا يحمل أي معنى، أو لا ينبئ بأي فهم للمتلقي، لحظة تلقيه. في حين أن الافتراض، المغيّب، والمستبعد، هو أن هناك معان مختفية، وتشخيصات مبطنه، لا تتناسب وفهم المتلقي. في المقابل، إن متلق آخر، يصف نفس القول، بأنه مشبّع بالمعاني، ومحمّل بالدلالات.القضية كل القضية، أو الأزمة، العالمية الشاملة، هي، كما أراها، هي أزمة التعاطي مع الأفكار، وكيفية التعامل معها. وان كان على السطح، مقولات مثل (صراع الحضارات) وغيرها. فهي لا تتجاوز الغلاف الخارجي، والقشرة السطحية، للأزمة.يجب أن نستبدل آليات تعاملنا مع الممارسات الفكرية، وان نغير أساليب رؤيتنا للتعاملات الحياتية. الحياة متغيره، متسارعة، على جميع الأصعدة، فلماذا تبقى طريقة، تعاملنا مع أفكارنا، ونصوصنا، ثابتة؟؟
سؤال الكيفية:-لا يكفي أن نقول ( يجب أن...) أو (ينبغي أن...) ونترك الباب مواربا على حائط. ولكن يستلزم، أن نعقب، على هذه الدعوات، بسؤال الكيفية. الا وهو : كيف نستبدل آليات تعاملنا مع ممارساتنا الفكرية؟في البداية، يجب أن نعلم أن المعنى، غير قابل للاستنفاذ، فهو متجدد، متفاعل أحيانا، وهو في المقابل، خامل، ساكن، وذلك يعتمد على آليات استدعائه، ووسائل بعثه، وطرق إخراجه. ولكي يأتي كما يريد الكائن البشري، وكما يريد واقعه، يستلزم ذلك البحث، عن القنوات المناسبة، للوصول اليه. وللتدليل على الفكرة الا خيره، نجد في الآونة الأخيرة كثرة الدراسات التي تعود للماضي، بهدف إثراء الحاضر، أو تعديل رؤيته، أو توجيه خط سيره. وذلك يعني إن المعنى، يتعرض لحالات كمون، ولحظات اختفاء. وهذه الدراسات، التي تقرأ الماضي، وشخوصه،وتبحث في الأمس وأحداثه، لا تخلو من دلالات مهمة، وخطيرة، وهي أن المعنى لا يسمو الا حين تتوفر الأرضية الخصبة، لنموه، ونشأته. وهذه الأرض، هي السياقات (بالجمع ) العامة الموازية. الدلالة الثانية: قوة المعنى، الذي يمتلكه السلف، والمتناثر على أديم النصوص المختلفة، نثرا، وشعرا.الإجابة عن سؤال الكيفية، لم تأتي بعد، أو لنقل إنها متناثرة، على أديم هذا النص، المتناثر، والمتشظي. وهي بأن المعنى، ينقلب علينا تارة، وننقلب عليه تارة أخرى. باختصار: يعتمد على الكائن البشري، وسياقاته الموازية، ومنها قنوات استقباله، وكيفية التعامل معه، وآليات استبعاده وإقصائه.

الثقافة العُمانية الإلكترونية

تمثل الشبكة المعلوماتية الدولية (الانترنت) فضاء ً مفتوحا ً على اللامتناهي من الاستخدامات والتوظيفات. وهي في ذلك تمزج بين النص والسماع والرؤية.
بوجود هذا الفضاء المفتوح انتهت الكثير من الايدلوجيات المهيمنة, وتغيرت مواقع معظم الرؤى والمواقع الفكرية التي كانت سائدة , وفي المقابل برزت الكثير من الظواهر والايدلوجيات التي اعتقد الكثير انها انتهت اواختفت.
نحاول في هذا البحث التطرق للثقافة العُمانية الالكترونية اي لتلك الثقافة العُمانية التي نشأت وتكونت في فضاءات الشبكة العالمية, بعيدا ًعن المواقع الرسمية التابعة للهيئات والدوائر الحكومية , محاولين تسليط الضوء على بعض المواقع الالكترونية العُمانية او ما تسمى بالمنتديات, وتحليل بعض سماتها العامة , مبتعدين في هذه الرؤية عن التطرق للمدونات الشخصية.
عندما نقول الثقافة العُمانية الالكترونية فإننا نقصد تمييزها عن تلك الثقافة العُمانية الورقية كالصحف والمجلات وتمييزها كذلك عن الثقافة المرئية والمسموعة مثل القنوات التلفزيونية والاذاعات. وعندما نقول الثقافة العُمانية الإلكترونية فإننا نقول بشكل ٍ ضمني بأن هذه المنتديات والمواقع لا تختلف كثيرا ً عن البيئة العمانية من حيث بنية التفكير وطريقة النقاش واساليب الحجاج والمواضيع المهيمنه. فهذه المنتديات, كما سنبين لاحقا ً, نسخة تقنية رقمية عن البيئة العمانية بشكل ٍ عام , مع اختلاف اسلوب طريقة التعبير.

احتمالات التناسل الالكتروني :-

تتناسل المواقع العُمانية في الأونة الاخيرة بشكل ٍ متسارع يدعو للتساؤل عن اسباب كثرة هذه المنتديات.
وربما بقليل من التأمل والتروي نجد ان لهذا التناسل الالكتروني العماني ما يبرره.
ف بنظرة احصائية تقريبيه نجد ان المنتديات العمانية يقترب عددها من الخمسين موقعا ً ومنتدى , وهو ما يجعلنا نتسائل عن الاسباب الواقعية الكامنة خلف هذه التناسل الالكتروني؟ ونتائجه.
تتعدد الآراء حول الاسباب الرئيسية لهذا التناسل. فهناك من يقول بأن الرقابة الرسمية الصارمة نوعا ً ما على الكتابة والنشر في سلطنة عمان هي احد الاسباب التي ادت لهذا التناسل. فجميع المشاركين في هذه المنتديات يبحثون عن الحرية والانفتاح في الكتابه والطرح للمواضيع , وهذه الحرية تتعذر في الصحف العمانية اليومية المقروءة مما يشكل المنتدى فسحة كبيرة للحديث بشكل ٍ حر.
الحرية اذن هي الفردوس المفقود في الصحافة العمانية والمنتديات جاءت كتعويض ٍ عن هذا الفقد.
تفترض الفكرة الاخيرة بأن المنتديات خالية من الرقابة الرسمية,وبأن الحرية في الطرح ممكنة بل وطبيعية. ولكن الرؤية المتأنية والهادئة لهذه النقطة تكشف لنا عن تلك المثالية الكبيرة التي تغلفّ هذا الطرح وتؤدلجه. وبحسب الرؤية الاخيرة فإن المنتديات نشأت كضرورة للتعبير واثارة لبعض القضايا ومناقشتها بكل حرية وانفتاح وبقدر ٍ عال ٍ من الموضوعية. في حين ان المتابع للمواضيع التي تثار في هذه المنتديات يكتشف وبكل وضوح ان معظم هذه المناقشات تفتقر للكثير من اسس النقاش الموضوعي وهو ما سنوضحه في الفقرات القادمة.
بعد الانتهاء من قضية "سبلة العرب" وصدور الحكم القضائي في هذه القضية , وبعد ان اتخذ مؤسس هذا الموقع قراره الشخصي الحر بإغلاق " السبلة ", ظهرت العديد من المنتديات المشابهة لها املا ً في مواصلة مسيرة التعبير "الحر" التي كانت موجودة في السبلة. اذا نظرنا للجهود المبذولة في سبيل عدم توقف طرح المواضيع عندما تم اغلاق "سبلة العرب" نجد انه تم انشاء منتديات مشابهه من حيث المضمون وطريقة الطرح والمعالجة مع اختلاف طبيعي في اسماء هذه المنتديات.
لم يكن الكم الكبير لهذه المنتديات بلا نتائج على وضع الكتابة والتعبير في الصحافة العمانية. من ابرز النتائج ضعف المواضيع - من ناحية الكم والكيف - المطروحة في الصحافة العمانية مقارنة بالمواضيع المطروحة في المنتديات. ثانيا ً: انعدام المناقشات للمواضيع والرؤى المطروحة مما جعل المنتديات تحتضن هذه النقاشات بغض النظر عن اساليب هذه المناقشات ومستواها.

ثمة احتمال آخر لهذا التناسل الالكتروني للمنتديات العمانية وهو بأن هذه المنتديات تسمح للجميع, مهما اختلفت مستوياتهم المعرفية وتباينت خلفياتهم الايدلوجية , تسمح لهم جميعا ً بأن يعبّروا عن انفسهم كل حسب رؤاه ومستواه, بعيدا ً عن تلك الفروقات البعدية التي يتم إلصاقها بهذا الكائن او ذاك.
وهي ما تضع المتابع لهذه المنتديات امام مستويات معرفية ولغوية وفكرية متباينة جدا.
وهذا ما يضعنا بالتالي امام "خلطة عجيبة " من الرؤى والافكار المختلفة والمستويات والتي لا يجمع بينها سوى تلك الرغبة الكبيرة في التعبير والحديث للآخرين, والتنفيس عن المكبوت في النفس.

المنتديات :التسمية وآفاق الطرح :-

ثمة سمات عامة تتسم بها المنتديات العمانية حتى ان الاختلاف في تسمية المواقع وتعددها يثير تساؤلا ً حول الهدف من هذه المنتديات الكثيرة المتشابهة.

اولا ً : من ابرز هذه السمات ان البعد السياسي اخذ جانبا ً كبيرا ً في مواضيع المنتديات العمانية , لذلك نجد ان منتديات السياسة تتصدر قائمة هذه المنتديات , وعدد المواضيع المطروحة وعدد المشاركات ونسبة الزيارات.
ثانيا ً : لا يقل حضور البعد الديني في المنتديات العمانية عن الجانب السياسي , فكلاهما يتواجدان بشكل ٍ كبير , وفي معظم الاحوال يأتي هذا التواجد بصورة ٍ تقليدية , لا تختلف كثيرا ً عن ما نسمعه في الاحاديث والتجمعات التي نجدها في المجتمع العماني.
ثالثا ً : النسبة الاكبر من المشاركين في هذه المنتديات يتخذون اسماء رمزية مستعارة, ف من النادر جدا ً وجود مشارك بإسمه الرسمي المعروف به في اوراقه الرسمية والادارية (قد يكون موقع "فرق" الاستثناء الوحيد).
رابعا ً: معظم المواضيع المنشورة في المنتديات تأتي كمواضيع منقولة, احيانا ً يتم التصريح بذلك وفي معظم الحالات يتم هذا النقل دون الاشارة الى مصدرها.
خامسا ً: غالبا ً لا يتم الحوار مع المختلف في الرأي بشكل ٍ معرفي وانما ينتقل الحوار الى شخصية المحاور دون التطرق الى فكرة الموضوع।

من السبلة[1] الى الحارة :-[2]

تعتبر "سبلة العرب" من اوائل المنتديات العمانية الالكترونية وهي لذلك تعد اشهر المنتديات العمانية تقريبا ً, واهمها. منذ تأسيسها في العام 1999 والى العام 2007 - لحظة اغلاقها بناء ً على رغبة مؤسسها ,وذلك بعد صدور حكم البراءة في حقه في القضية المرفوعة ضده - كان لها حضور كبير, وتأثير فاعل في المناقشات التي تدور بين فئة المتابعين لها.

تشير تسمية "السبلة" الى البيئة العمانية في حين ان المسمى الرسمي "سبلة العرب" يشير الى العرب بشكل عام , وهذه اولى مفارقات التسمية , التي تجعل المشاركة في هذه "السبلة" منحصرة فقط وان لم يكن بشكل ٍ رسمي ومكتوب , على جنسية واحدة. يتجلى هذا الحصر في اغلب المواضيع المطروحة للمناقشة في "السبلة" , فهذه المواضيع تتركز بشكل ٍ كبير على الاحوال والاوضاع العمانية مع وجود بعض المواضيع المتفرقة عن الدول الاخرى, مما يجعلنا نتسائل عن اسباب هذا الاختزال في التسمية.
تتضمن هذه "السبلة" , او بالاحرى كانت تتضمن العديد من المنتديات كمنتدى السياسة والاقتصاد ومنتدى الشؤون الدينية ومنتدى الثقافة والفكر وغيرها الكثير, وهي في ذلك لا تختلف كثيرا ً عن بقية المنتديات من حيث تبويب المواضيع والتوجهات التي يتم بها برمجة جميع المشاركين فيها.
تعدد المواضيع السياسية والتسارع الكبير في عدد المشاركات المطروحة في منتديات "السبلة" والخفوت النسبي في المواضيع الاخرى يجعلنا نتسائل عن اسباب هذا التركيز الكبير لمثل هذه المواضيع , وتهميش بقية الجوانب الاخرى. وكأن المواضيع السياسية هي المفتاح لحل جميع المسائل الحيوية. يتناسى المشاركون بأن السياسة في معظم احوالها واوضاعها ليست الا نتيجة للأوضاع الاقتصادية والمعرفية لكل كيان سياسي. وهذا ينطبق ايضا ً على النقاش في المواضيع السياسية وغيرها, ف من المتعذر الحديث في موضوع ٍ ايا ً كان هذا الموضوع دون الإلمام بمعظم جوانبه ان لم تكن جميعها.في حين ان المتأني في متابعة المناقشات يجد عدم الاحاطة بهذه المواضيع والمناهج والاستراتيجيات التي دارت وتدور حولها. تنطبق الفكرة الاخيرة ليس على المواضيع السياسية فقط وانما تمتد لتشمل ايضا ً المواضيع الفكرية والمفاهيمية. فالخلط الحاصل في المفاهيم والرؤى المؤدلجة في الطرح يكشف عن عدم وجود ارضية معرفية كافية للحوار والنقاش بين المشاركين. فعلى سبيل المثال نجد ان مفهوم "العلمانية" يتم طرحه في هذه المنتديات ليس على اساس ٍ تاريخي او معرفي وانما على مواقف شخصية وافكار مؤدلجة تم تلقينها للمشاركين. لا يحاول المشاركون البحث عن امتدادات بعض المفاهيم وتاريخها. وهذا يشكل نقطة خطيرة اذا اخذنا في الحسبان الانتشار الكبير والشعبية الواسعة التي تحظى بها هذه المنتديات. مكمن الخطورة هنا ان هذه المنتديات تشكل وعيا ً زائفا ً, لا يستند على اسس معرفية ٍ عميقة بل على مجرد مجموعة سطحية من الانطباعات والقراءات السريعة الغير نقدية.
بإغلاق "سبلة العرب" ظهرت الى الفضاء الالكتروني سبلة اخرى , انها "سبلة عمان". يحمل هذا الوليد الالكتروني العديد من الدلالات والاشارات من اهم هذه الدلالات ان هذا الفضاء الالكتروني لا تمتلكه المؤسسة الرسمية ومعنى ذلك ان المشاركين بإمكانهم قبول التحدي وفتح مواقع حوارية ومنتديات اخرى. ثانيا ً يأتي هذا التحدي كتطبيق ٍ لتلك المقولة التي جاءت على لسان وليّّ امرنا في تلك الجلسة الشهيرة معرفيا ً واعلاميا ً والتي عقدت في "جامعة السلطان قابوس" في العام 2000 حينما قال "نحن لن نسمح لأحد ان يصادرالفكر... ابدا ً".
بالرغم من الحماسة التي رافقت انشاء "سبلة عمان" الا انها لم تستمر طويلا ً في استقطاب الاسماء التي كانت تشارك في "سبلة العرب". انتقل بعض المشرفين من"سبلة العرب" الى "سبلة عمان" وانتقلت معهم بالتالي بعض الاسماء المشاركة, مما جعل انتقال بعض المفاهيم والافكار نتيجة طبيعية لهذه الانتقالات, وهو ما جعل التغير في اسماء المنتديات ما هو الا تغيرا ً في التسمية فقط , ليأتي منتدى "الحارة العمانية" كحلقة اخرى في هذه السلسلة الطويلة من التناسل الالكتروني العماني.
من ناحية التسمية يشير مسمى "الحارة العمانية" الى خصوصية اخرى ترتبط بالبيئة العمانية و الى اتساع في المكان مقارنة "بالسبلتين" المذكورتين سابقا ً. الا ان المتجول في ازقة هذه الحارة يجد قلة الزوار وضعف عدد ونوعية المواضيع المطروحة فيها.
بظهور هذه المنتديات واختلاف خلفيات المشاركين فيها, كان من المتوقع ان يتم تجاوز او انصهار بعض الخلفيات الايدلوجية المنتشرة في المجتمعات الناشئة, وبقليل ٍ من المتابعة لهذه المنتديات ومواضيعها, نجد ان هذه الايلوجيات انتعشت في هذا الفضاء الالكتروني الجديد. نجد ذلك واضحا ً في بروز بل وانتعاش تلك التصنيفات المذهبية والقبلية , سواء ً أكانت اثناء النقاش او من خلال بعض الاسماء المستعارة. من المهم القول هنا ان ثمة استثناءات تخرج عن هذه القاعدة , وهي استثناءات طبيعية, وضرورية. ولكن وجود هذه الاستثناءات التي تجاوزت هذه التصينفات لا يعني انها ستحتل مكانة ً مهمة في مثل هذه المنتديات ذلك ان الاستثناءات نادرا ً ما يتم سماعها وخاصة اذا تعلق الامر بالمواضيع التي تنعش المخيال الاجتماعي. اي لتلك المواضيع المتعلقة بتلك العلاقة الملتبسة بين ما يسمى بالشرق والغرب او بين الدين الاسلامي والكثير من المواضيع والقضايا الاشكالية الكثيرة التي تطرح بين فترة واخرى.
من الممكن اعتبار "سبلة العرب" سابقا ً او ما تناسل من مواقع إلكترونية عوضا ً عنها , من الممكن اعتبارها مكانا ً للتناقضات. نقصد بذلك انها موئلا ً للكثير من الاشاعات والقليل من المواضيع الواقعية المتحققة. وهو ما يجعلها تفقد المصداقية بنفس القدر من الجاذبية التي تمارسها على المتابعين لها.
كان من المتوقع ان يصاحب التغيير في التسمية تغيرا في المواضيع او طرحها او طريقة معالجتها الا ان الواقع ينبيء بغير ذلك. وهو ما يجعلنا نتسائل حول المغزى الاساسي لهذا التناسل الالكتروني المنتمي لنفس سلالة المؤسسين.

"فرق"[3] : فرق في الرؤى :-

يحاول منتدى "فرق" ان يصنع الفرق والتميز في خارطة المنتديات العمانية , وهو ناجح الى نسبة ٍ كبيرة في صناعة هذا الهدف. يتجلى الفرق في هذا المنتدى من الصفحة الترحيبية الاولى ف حقوق الانسان في التعبير والتفكير واعتناق الآراء هي المدخل الواسع لهذا المنتدى, وهذه الحقوق وغيرها بناء ً على المادة (19) من النص العالمي لحقوق الانسان , كما هو وارد في مدخل الموقع. من البداية يعلن هذا المنتدى بأنه مختلف ومتفق في نفس الوقت. ف هو مختلف عن بقية المنتديات العمانية من ناحية الرؤى والتصورات وهو متفق من حيث ان جميع الناس يتمتعون بنفس الحقوق والواجبات, حسب الاعلان العالمي لحقوق الانسان. ثمة تميز يشاهده المتصفح في تصفحه لعناوين المنتديات الفرعية من اهمها :-
اولا ً: معظم اسماء المشاركين يشاركون بأسمائهم الرسمية, ولكن مع مرور الوقت بدأت هذه الميزة في التضاؤل والتلاشي.
ثانيا ً: منتدى المواطن : في هذا المنتدى يتم الاصرار على ان هناك مواطنين ولا يمكن تسميتهم بغير ذلك. ففي هذا المنتدى تتم مناقشة نفس القضايا والمواضيع تقريبا التي يتم مناقشتها في المنتديات العمانية الاخرى , وبنفس الاساليب والطرق.فالتركيز هنا على المواطن وحقوقه وواجباته لتأتي بعد ذلك المواضيع الممكن مناقشتها , سواء ً أكانت اقتصادية ام سياسية.
ثالثا ً: يضم هذا المنتدى مجموعة متميزة من الكتاب والمهتمين بالشأن الادبي والمعرفي, وربما هذا هو احد اسباب تميّز مواضيعه. مشاركة هؤلاء الكتاب العمانيون باسمائهم الرسمية منح هذا الموقع نوعا ً من الجاذبية خاصة وان بعضهم له تاريخ حافل في حقوق الانسان, والترحال المعرفي والمكاني.
رابعا ً: نجد الكثير من الادباء العمانيين المعروفين لهم مشاركات في هذا المنتدى وهو ما جعل التجدد في المواضيع والتفاعل في النقاش ومشاركة الرؤى ضعيفا ً نوعا ً ما. من المفترض ان يحدث العكس فيما يتعلق بالنقطة الاخيرة, ولكن اذا نظرنا الى مستوى النقاش بين الادباء العمانيين المشاركين في هذا المنتدى نجد ان معظم الحوارات ليست معرفية الهدف بقدر ما يكون هدفها ابراز "العضلات" المعرفية وابراز التاريخ الشخصي على حساب بقية المشاركين.
خامسا ً:من المنتديات الفرعية المميزة في منتدى"فرق" اهتمامه "بشؤون الاعاقة وذوي الاحتياجات الخاصة" وهي فكرة متميزة بكل المقاييس لما لهذا الموضوع من اهمية على جميع المستويات, الاجتماعية والنفسية والمعرفية.
سادسا ً: التركيز على حقوق الانسان في العناوين في مدخل هذا المنتدى يوحي بالفرق الكبير الذي يحاول هذا المنتدى ان يصنعه ويقوم به , ولكن المتابع له يكتشف وبوضوح ان لحقوق الانسان حضورا ً خافتا ً. في حين ان الحضور الاكبر يتجلى في مواضيع اخرى غير الانسان وحقوقه.
ثمة خطة طموحة لتوسيع هذا المنتدى وزيادة المجالات التي يقدمها للمتلقي, ولكن المتابع المستمر لهذا المنتدى يكتشف ان تلك الحماسة في طرح المواضيع واختلاف الرؤى والافكار بدأت في الخفوت والتراجع,ذلك ما نلمسه عند تصفحنا للمنتدى في الايام الاولى لتأسيسه مقارنة بعد اشهر من تأسيسه. مكتبة , مخطوطات , والعديد من المجالات المهمة التي كانت ستفتح آفاقا ً جديدة للمتلقي,اختفت مثل اختفاء بعض الاسماء المشاركة من المنتدى.
يتقاطع ويختلف منتدى "فرق" مع منتدى عماني اختفى منذ فترة غير قصيرة , الا هو "مجلس الادب العماني" والذي كان يهتم بالادب العماني بجميع اطيافه , وفي نفس الوقت يضم مجموعة جيدة من الشعراء والكتاب العمانيين. ونقطة التقاطع والاختلاف هنا تأتي من التشابه في بعض المواضيع والمنتديات , و إحلال الاسماء الرسمية لبعض المشاركين عوضا ً عن الاسماء المستعارة. في المقابل فإن نقاط الاختلاف تأتي من حجم حضور الاسماء المشاركة ووضعها الفعلي الاعلامي. وعندما نقول ذلك فإننا نشير وبشكل ٍ مقصود حول امكانية استمرار موقع "فرق" في ظل عدم التجدد المتوقع والبطء النسبي في المواضيع والمشاركات. نقول ذلك ونحن نستذكر تلك المشاريع الثقافية الواعدة التي ظهرت فجأة بشكل ٍ حماسي كبير ثم اختفت فجأة ايضا ً, من هذه المشاريع التجمعات الثقافية وبعض المجلات والعديد من المواقع الالكترونية. مما يجعلنا امام تساؤل حول اسباب عدم استمرار المشاريع الثقافية في الراهن العماني؟

موقع الترجمة[4] : أهمية و تميّز:-

تحتل الترجمة مكانة مهمة في جميع الازمنة والامكنة , فهي عامل مهم وضروري جدا ً في الاستفادة من معارف وتجارب الثقافات الاخرى. ادركت "جماعة الترجمة" في جامعة السلطان قابوس هذه الاهمية , لذلك اسست موقعها الالكتروني التوثيقي , الذي يوثق جميع نشاطاتها ويحفظها من الزوال والضياع. بالاضافة للحضور المتميز لهذه الجماعة على مستوى الصحف العمانية , إلا ان فكرة انشاء موقع لها يكشف عن نضج ووعي متميزين تتمتع بهما ادراة واعضاء الجماعة.
مكمن هذا الوعي في تلك المنتديات التي يضمها "موقع الترجمة" والاقسام الفرعية التي تتجدد بشكل ٍ مستمر ودائم , وفي تلك المشاركات والمناقشات الجارية في اقسام المنتدى.
لا يحظى هذا الموقع بتلك الشهرة الاعلامية التي تحظى بها بقية المواقع والمنتديات العمانية , وهذا لا يعني بأي حال ٍ من الاحوال تلازم الشهرة الاعلامية مع الاهمية المعرفية. ف ليس كل مشهور اعلامي مهم معرفي والعكس ايضا ً. يحتوي المنتدى على العديد من المنتديات الفرعية المتميزة , منها ما هو مختص بالترجمه وفروعها كالترجمة الادبية والدينية وغيرها. ومنها ما مختص ايضا ً بالفنون الابداعية الاخرى كتلك التي تهتم بالمقالات المتميزة او قراءات في بعض الكتب التي يقرأها اعضاء المنتدى.
تتمثل اهمية هذا المنتدى في امكانية التجمع المعرفي الذي يحتضن جميع المهتمين بهذا الفن المعرفي الهام , وتبادل الافكار بخصوص الترجمة. في حين ان ما ينقص هذا المنتدى هو مشاركة بعض المختصين والفاعلين في هذا الحقل المعرفي الهام. غير ان اقتصار نشاط هذه الجماعة على هذا الموقع مع بعض المشاركات في الصحف العمانية يجعل هذا النشاط مقتصرا ً على فئة ٍ معينة: اي تلك الفئة التي تستطيع الوصول لهذا المنتدى عن طريق الشبكة المعلوماتية.
وهو ما يفتح التساؤل حول امكانية تفعيل هذا المنتدى وتفعيله على اوسع نطاق للإستفادة من الجهود المبذولة فيه.

مقترحات ختامية :-

في ختام هذا البحث البسيط والمختصر, يجب ان نورد بعض الرؤى التي تولدّّّت نتيجة هذا البحث. هذه الرؤى ليست موجهة لطرف ٍ دون الآخر او لجهة ٍ معينة , بل هي رؤى مفتوحة غير ايدلوجية , وهي كالآتي :-
اولا ً: هناك الكثير من المواقع الالكترونية العمانية لم يشملها هذا البحث, وهذا لا يعني عدم الاعتراف بأهميتها ودورها وحضورها الفاعل لدى زوارها او المشاركين فيها. نذكر منها "المجرة" و "سأحلم" وغيرها. حاول هذا البحث التطرق لعينة ٍ من هذه المنتديات , تمثّل هذه العينة في رأي كاتب هذه السطور, مجموعة من المنتديات الفاعلة بشكل ٍ كبير, فهذه العينة تساهم في صياغة العديد من الرؤى ووجهات النظر, فهي تقوم ببرمجة ٍ لا واعية للكثير من المواقف والخلفيات تجاه الوجود والعالم ككل. نقول ذلك بالرغم من كل الملاحظات والنواقص التي تعتري هذه المواقع.
ثانيا ً: تساهم هذه المنتديات في خلق مجموعة غير محدودة من المتلقين, وتلقين الكثير منهم بالعديد من وجهات النظر الانفعالية والغير مدروسة , والكثير من المواقف الغير خاضعة للتمحيص والنقد المعرفي, وهي في المقابل تساهم في خلق ارضية جيدة للنقاش والحوار بالرغم من كل المستويات والاشكاليات المرافقة لهذه النقاشات.
ثالثا ً: من الممكن إعتبار هذه المنتديات كمؤشرات للرأي العام وللإتجاهات والاهتمامات التي تتبلور بالتفاعل الايجابي او السلبي مع الاحداث الداخلية او الخارجية ,ذلك ان معظم المواضيع تأتي مباشرة بدون اي تفكير عميق او رؤية متعددة الابعاد , وهو ما ينبغي استثماره من بعض الجهات المختصة كل ُ حسب اهتماماته.
رابعا ً: لا يمكن إغفال الاهمية التي تمثلها هذه المنتديات, فهي تجمع الكثير من الرؤى والعديد من الاطياف والتجمعات المتباينة. وهذا يكشف لنا عن وجود نوعا ً من الاختلاف في الرؤى وبالتالي انعدام هيمنة رؤية واحدة على الواقع وتفسيره, وهو ما يثري النقاش احيانا ً. قلنا سابقا ً بأن البعدين الديني والسياسي هما البعدان المسيطران على هذه المنتديات وهذا يعني تغييب او تهميش البعد الفكري والثقافي في النقاش. نعم توجد العديد من المنتديات الفرعية بهذا الاسم ولكن المتصفح يجد ان هذه المنتديات لا تؤسس لإرضية جيدة وموضوعية من الثقافة والفكر, بل هي تؤسس للكثير من عدم التماسك الموضوعي والمفاهيمي.

[1] http://www.omania.net/ السبلة العمانية سابقا ً. الموقع الوليد www.omania2.net


[2] http://www.alharah.net/


[3] http://www.farrq.net/

[4] www.transqu.net