Wednesday, October 24, 2007

التراجع المعرفي ونتائجه

ثمة ظاهرة ملفتة للنظر, وباعثة على التأمل والبحث, ألا وهي ظاهرة التراجع المعرفي, التي نشهدها حاليا ً , تحاول هذه الورقة أن تتطرق لهذه الظاهرة , وانعكاساتها المتعددة على الواقع المجتمعي المتعدد.

في البداية , ينبغي القول إن هذه الظاهرة (ظاهرة التراجع المعرفي) , لا تأتي منعزلة , أو منفردة , بل إنها تأتي كظاهرة ٍ مطرّده. فكلما برزت هذه الظاهرة ارتفعت حدة الانغلاق والتعصب, والعكس. تتجلى هذه الظاهرة, في عدة مجالات, بعضها مباشر, وبعضها غير مباشر. وهي لا تتجلى بشكل ٍ مظهري واضح, بل إنها تأخذ أبعادا ً دلالية, ورمزية, غير واضحة. ف التراجع المعرفي لا يمكن قياسه, أو وزنه, أو محاولة إحصاءه. فالمعرفة تختلف بشكل كامل عن النشاطات الإحصائية والحسابية , التي تهدف الى جمع البيانات, والمعلومات, انها (المعرفة) , تهدف الى تكوين قاعدة واسعة للرؤية , وأسس متعددة للقراءات النصية او الواقعية.
من الممكن تقسيم الرؤية المعرفية الى قسمين: رؤية معرفية منفتحة , ورؤية معرفية منغلقة.

الرؤية المنفتحة: هي تلك الرؤية التي ترى في النسيج المعرفي والمجتمعي الشامل, أساس الوجود وسبب استمرار يته, والمنطلق الأساسي للتعامل معه.

الرؤية المنغلقة: هي تلك الرؤية التي تنحصر في مجتمع معين , أو نظام معرفي خاص , تصدر عن ذلك النظام المعرفي فقط , ولا تقبل بالإضافات المعرفية الأخرى.

على المستوى التعليمي العام والأكاديمي المحلي: نلاحظ أن هناك فرعا ً معرفيا ً, بالغا ً في الأهمية من الناحية المعرفية, قد تم إلغائه من النظام التعليمي الأكاديمي, سواء التعليم الجامعي أو التعليم العام. نقصد بذلك الفلسفة ," ف بالرغم من إنها ظلت ممثلة تمثيلا نسبيا جيدا من خلال قسم الفلسفة والاجتماع مع افتتاح جامعة السلطان قابوس في أواخر الثمانينيات[1] "، إلا انه " سرعان ما تم تجميد قسم الفلسفة وإيقاف الالتحاق به، واقتصر دوره على تدريس بضع مواد فلسفية "[2] , وربما التراجع الأكبر من ذلك " إلغاء تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية "[3].

من المهم التذكير في هذا السياق, بنقطة ٍ بالغة الأهمية, ألا وهي: بأن تدريس الفلسفة, له معان ٍ متعددة, من أهمها تدريس آليات تنمية واكتساب التفكير الحر, والنقدي. وإذا توغلنا أكثر في هذا السياق أصبح بإمكاننا القول بأن المخرجات التعليمية بمستوييها التعليميين : العام والجامعي , في حاجة ماسه جدا , لاكتساب هذا النوع من الضرورات الفكرية. فليس الهدف من هذه الجهود التعليمية الرائعة, أن يتم ملء سوق العمل بها (بالرغم من أهمية هذه النقطة) , إلا إن الهدف المستقبلي هو المساهمة في إنتاج مجتمع معرفي, يقوم على أسس وركائز عميقة , يهدف إلى إرساء اقكار, وقيم عقلية, غير متوفرة على الأقل في المجتمع القائم.
في الفترة الأخيرة ازدادت الدعوات, إلى ضرورة تعديل المناهج الدراسية, في المرحلة الابتدائية. في خضم هذه الدعوات المتزايدة , من جميع الاتجاهات , وبنوايا مختلفة, لم نسمع ولو في توصية غير جادة, إلى ضرورة تدريس الفلسفة, كمنهج ٍ مستقل , له ما للمعارف الأخرى من استقلالية , وكادر تعليمي, وبقية الإمكانيات.
لسنا في حاجة هنا, إلى تكرار ما قيل في دراسات ٍ سابقة, عن أهمية الفلسفة, في تطور الحضارات والأمم, ودورها في انتقالها من مرحلة الاستقبال إلى وضعية الإرسال.

لا احد ينكر الدور الهام للعلوم التطبيقية المتعددة , و النتائج المستقبلية للاهتمام بها, ولكن هذا الاهتمام لن يتطور إلى مرحلة الإنتاج الفعلي للعلوم والمفاهيم, ما لم تصاحبه حركة فلسفية تنظيرية, تركّز على البنى الفلسفية والفكرية الموّلدة لهذا الصنف من العلوم , وكيفية البحث والتساؤل المنهجي, عن كل ما يحيط بالموضوع المراد بحثه.

لم يكن هذا التراجع المعرفي على المستوى التعليمي بشقيه : العام والجامعي , لم يكن بلا نتائج , فمعظم أسباب النزعة الاستهلاكية التي طالت كل شيء تقريبا, بما فيها الأفكار الضرورية للكائن البشري, من رؤى حرة تعلي من قيمة الكائن البشري , وتحتفي بإنجازاته الفلسفية والفكرية والمعرفية , لم تكن هذا النزعات الاستهلاكية إلا نتيجة من ضمن نتائج متعددة , لهذا النوع من التراجع المعرفي , والذي في واقع الأمر , نحن بحاجة ٍ ماسه لاستبداله, بنوع ٍ من التقدم المعرفي المصاحب, للتقدم العمراني , والاستهلاكي .

من النتائج الملازمة أيضا ً , لهذا التراجع المعرفي , وهو تراجع ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار بشكل ٍ جدّي, هو هذا الانغلاق , والتقوقع حول الذات, والتوهّم بأن كل شيء تمتلكه الذات , ولا حاجة لها للتفكير والبحث إلا داخل النطاق المعروف والمرسوم سلفا ً.

من الضروري هنا , الحديث عن ايجابيات التقدم المعرفي المصاحب للتقدم العمراني والسكاني والتقني , وذلك كضرورة حياتيه أكثر من النظر لهذا التقدم على انه ترف من الممكن التغاضي عنه, أو الاستغناء عنه.
يتم الحديث هنا , عن التقدم المعرفي كضرورة , من ضروريات الحياة المعاصرة . هذه الحياة المليئة بالتعقيد, والاستيراد المتعدد, سواء النظري, أم التطبيقي.

ثمة وجه آخر لهذا التراجع المعرفي الرسمي, ألا وهو الغياب النهائي والكامل على المستوى الغير رسمي, فيما يتعلق بإنشاء مراكز أو معاهد متخصصة فقط لتنمية التفكير الفلسفي والعقلاني. قد يتعلق الأمر بالربحية, في حين أن النظرة الواقعية المفترضة , وليست المثالية , تقتضي من القطاعين الرسمي والغير رسمي , أن يتم النظر في البدء , كخطوة ٍ أولى للإنتاج الحضاري المأمول , والمنتظر , أن تتغير زاوية الرؤية , من الربح السريع , والعاجل , إلى زاوية ٍ أخرى أكثر انفتاحا ً , أو انفراجا ً, زاوية النتائج البعيدة المدى.

عود ٌ على بدء , ينبغي القول أن كل ما يتلقاه الكائن البشري بشكل ٍ عام , من معلومات ٍ وبيانات وأرقام , سيبقى حبيس ذاكرته , وعقليته , ما لم يجد المنهج المناسب, لتفعيل, كل هذه المدخلات, إلى رؤية , قادرة على الخلق والإبداع , والإتيان بالجديد , والمفيد.
وهذه الرؤية الخلاقة, لن تتحقق إلا عن طريق امتلاك هذا الكائن البشري, لمنهج ٍ يتصف بالمرونة, والنظرة الشمولية, المزودة بالمعرفة الضرورية.

[1] مجلة نزوى – العدد 40- سعيد توفيق – محنة الفلسفة – ص 16-20.
[2] نفس المصدر.
[3] نفس المصدر.

No comments: