Friday, October 26, 2007

الإنتاج الحضاري والسياقات العربية الراهنة

X

تسعى الدول الحديثة العهد (بالاستقلال) السياسي , تسعى لبناء متكامل وسريع للحاق بالدول التي استقلت منذ فترة طويلة , وهي في سعيها الحثيث تتخذ العديد من الخطوات والإجراءات التي تخوّلها للدخول في هذا العصر. تحاول هذه الورقة البحث في السياقات الراهنة الرئيسية ومدى ملائمتها لهذه الخطوات الساعية لمواكبة الدول الأخرى.

في البداية لا بد من الاعتراف بصعوبة وتشعب وتداخل هذا الموضوع مع مواضيع أخرى كثيرة, سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية.

مقدمة لا بد منها:-

ثمة هاجس مسيطر على العقول والأذهان منذ فترة طويلة, ألا وهو هاجس التقدم والإنتاج الحضاري, ولتحقيق هذا التقدم تم طرح الكثير من النقاط والمواضيع الممكنة , فهناك الفكر القومي والفكر الديني والفكر الماركسي والفكر العلماني والفكر التقني , وغيره الكثير من الأطروحات والفرضيات التي تم طرحها للدخول في التقدم المعاصر.

ولتحقيق هذا التقدم تم تشخيص الأزمات التي مرت بها (الأمة العربية ) وما تزال, منذ فترة طويلة ,على أوجه ٍ متعددة, وطرق متباينة, فهناك من يقول بأن البعد عن النهج النبوي والراشدي(نسبة ً للخلفاء الراشدين) , ودخول الدولة الإسلامية إلى مرحلة (الملك العضوض) , كما يقول البعض , كان من أهم الأسباب المؤدية للسكون والتخلف فيما يختص بهذه (الأمة العربية) , فيما يرى البعض أن الاستبداد السياسي , والتفّرد بالرأي, هو احد أهم الأسباب إن لم يكن أهمها على الإطلاق في تفاقم الوضع, كما يقول (عبد الرحمن الكواكبي) , فيما يرى أطراف آخرون , بأن البعد عن التفكير الفلسفي والتفكير العلمي من أهم الأسباب , كما يرى آخرون بأن توقف الاستعارة المعرفية من الحضارات الأخرى أو كما تسمى بالترجمة , لها دور كبير في هذه الأوضاع المحرجة , ذلك أن الاستعارة المعرفية من الحضارات الأخرى لها دور كبير في اغناء الحضارات المستعيرة بالأفكار والألفاظ والمدارس المعرفية وغيرها ,في حين يرى البعض بأن تهميش دور المرأة واختزال هذا الدور- بوصفها نصف المجتمع- إلى "شيء" مكمّل , وملحق بقائمة الرجل الطويلة, هو من أهم الأسباب في استمرار هذه الأزمة وتواصلها, فيما يرى آخرون بأن نظام التعليم بمجمله والعنصرية الدينية والانغلاق المعرفي, والبعد عن التحديث المتواصل لهذه المناهج من أهم الأسباب لهذا الوضع, وهناك الكثير غيرها.

اتجه آخرون لنماذج حضارية معاصرة , تعرضت لأوضاع ٍ مشابهه للأوضاع التي مرت بها(الأمة العربية) , ولكنها لأسباب كثيرة تخطت هذه العوائق وتجاوزت التحديات , ولذلك أصبحت نماذج من الممكن بل ومن الضروري الاستفادة من تجاربها التاريخية , بغرض الخروج من ذيل القائمة (الحضارية) .في قائمة المتصدرين من هذه النماذج نجد النموذج الياباني , كما طرحه المؤرخ والباحث المعاصر( مسعود ضاهر).

اتفق الجميع تقريبا ً برغم اختلافهم الشديد وتباينهم الواضح , اتفقوا على وجود أزمة, واختلفوا في المقابل – وهذا شيء طبيعي- حول أسباب هذه الأزمة وبالتالي حول كيفية معالجتها , وهي في الواقع ليست أزمة واحدة , بل هي أزمات (بالجمع), أصبحت على شكل طبقات متصلبة مع مرور الزمن , حتى إن التفريق بين السبب والنتيجة أصبح صعبا ً للغاية إن لم يكن مستحيلاً. في المقابل لم تتوقف هذه المحاولات المتعددة للخروج من هذه الأزمة, لم تتوقف عن الظهور تحت مسميات كثيرة, تختلف هذه المسميات حسب المرجعية المعرفية التي جاءت منها هذه المحاولات , نجد من بينها وربما أبرزها: الإسلام هو الحل , والعلمانية هي الحل , الوحدة الاقتصادية العربية , التكتلات الإقليمية (مجلس التعاون الخليجي), جامعة الدول العربية , إسلام بلا مذاهب , التقريب بين المذاهب ...وغيرها الكثير.

تذهب بعض الآراء إلى أن وجوه الأزمة العربية متعددة ومتنوعة, وهي لا تقتصر على وجه ٍ دون الآخر , فهي(الأزمة) تبدأ من الماضي ومن جذور الماضي البعيد, ذلك الماضي الذهبي حسب تعبيرات البعض,الذي لم ولن يعود مجددا على الأقل واقعيا ً , ولكنه من المحتمل أن يعود ذهنيا ً فقط في نظر الذين يشعرون بالحنين الجارف له, وهي متغلغلة في عقلية الكائن الراهن, الذي يعيش في الألفية الثالثة, فهذا الكائن يفكر ويرى ويحس ويتعامل ويرسل ويستقبل ويستنتج ويتوقع , ويمارس جميع آليات الحياة كما كانت تمارس في الماضي ,متقمصا ً بذلك شخصية وأفكار من سبقوه.

لذلك جاء الحاضر مشابها ً إن لم نقل مطابقا ً من حيث العمق - طبعا -ً للماضي البعيد, فهذا الحاضر لا يختلف عن الماضي إلا من حيث البنية الشكلية فقط, لقد حدثت عملية إبدال شيء محل شيء آخر , أو استعارة شيء محل آخر مختلف , فمازالت العقلية العربية تتعامل بمنطق "الآخر" تجاه المختلف عنها. الآخر هنا بمعنى النقيض والضد. فالعقلية المذهبية والقبلية والعنصرية العرقية, وغيرها هي ما يحرّك مخيال الفاعل الاجتماعي في الفضاءات المصطلح عليها بأنها عربية. لا يكف الماضي عن التلّون والتخفي, في ثنايا الحاضر وربما في المستقبل أيضا ًً.

شروط الإنتاج الحضاري:-

ثمة عوامل وأسباب عديدة, مهمة وضرورية ولا يمكن تهميشها أو الاستغناء عنها أو حتى تأجيلها لفترات ٍ زمنية ٍ قادمة, إذا قرر أي كيان ٍ سياسي الانتقال من مرحلة الوجود والاستهلاك إلى المرحلة الأكثر أهمية ً وتعقيدا ً وهي مرحلة الحضور والإنتاج الحضاري. لا يمكن أن تزدهر المجتمعات إلا بتوافر منظومة مترابطة من العوامل و الشروط, من أهمها: الحرية. نقصد بها الحرية المنظمة, أي تلك الحرية المسؤولة وهي في ذلك تختلف كثيرا عن الفوضى , وهي في المقابل خاضعة لمنطق المجتمع المدني. تتسع الحرية لتشمل حرية الرأي و المعتقد وإمكانية التعبير عن هذه القضايا بما يحفظ للمختلفين إمكانية التعبير عن هذا الاختلاف بكل انفتاح وتعدد. ترتبط حرية الرأي والمعتقد ارتباطا ً كبيرا بما يسمى بالمجتمع المدني المرتبط أيضا بالضرورة بمفهوم الديمقراطية. الحرية ليست شعارا ً سحريا ً يحول العالم إلى فردوس, بل هي منظومة معقدة, وشبكة مترابطة مع الكثير من المفاهيم والرؤى. ومعنى ذلك إنها يجب أن تتجذر أولا ً في عمق ( الأنظمة التاريخية ) الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية. فالرأي الواحد في جميع المجالات لا يؤدي إلا إلى شيوع نمط واحد في الرؤية والتفكير و هذا يؤدي بالضرورة إلى عدم وجود تنوع في المجالات الحياتية المختلفة سواء ً أكانت فكرية أم دينية أو غيرها. ثمة عوامل وشروط , بإمكاننا اعتبارها الأرضية الخصبة للحرية وازدهارها, من أهمها الوعي الفردي , و السياقات والشروط الاقتصادية.

لا يمكن أن نتصور إن تمارس الحرية بدون وعي فردي أو جماعي في ما يتعلق بالقوانين المعطاة من قبل السلطة السياسية.فالحرية هي الوعي بالحدود الموضوعة على التصرف , كما يقول عبدالله العروي. فانعدام أو ضمور هذا الوعي يعني من ضمن أشياء كثيرة, انعدام أو ضمور الأفق السياسي للفرد , الذي- والحالة هذه- من المفترض انه يتمتع بحس ٍ سياسي ورؤية واسعة نوعا ً ما وذلك تجنبا ً للعواقب التي من الممكن أن تعطّل من فاعليته أو تحدها.

تقوم الحرية على تصورات, لذلك نجدها تختلف من شخص ٍ لآخر, حسب الخلفية المعرفية والتصورية والزمنية للمتحدث. قد تكون إجابة المرأة المنغمسة في الفضاءات العربية بأن الحرية هي المساواة مع الرجل من حيث الحقوق والواجبات وتبوأ المناصب السياسية في حين أن من المحتمل إن ثمة إجابة مختلفة تأتي من امرأة تنتمي لفضاءات معرفية مغايرة. نجد نفس الآلية في ما يخص "المثقف" فهو يطالب في الفضاءات العربية بهامش ٍ أوسع وفضاء أرحب من الحرية في الكتابة والتعبير وإثارة الأسئلة , بينما نجد المثقف في فضاءات اخرى , ونقصد هنا بالتحديد الفضاءات الأوروبية تحديدا ُ, يمارس هذه الحرية بدون الحاجة للمطالبة بها والإلحاح عليها. والسؤال هو لماذا ؟ كيف وصلت بعض الفضاءات لمستوى متقدم , مقارنة مع المستوى العربي بالطبع , في حين أن بعض المستويات أكثر تأخرا ً من المستوى العربي. كيف حصل هذا التفاوت ؟ هل لذلك علاقة بالتاريخ؟ أم بالنصوص الفاعلة (القانونية والدينية) ؟ أم أن كل شيء مرتهن بالكائن البشري ومدى قدرته على الوصول إلى ما يريد ؟

لا يتم استيراد الوعي مثلما هو الحال حينما يتم استيراد ألآت الإنتاج في المصانع والمعامل, بل هو مرتهن بجدلية ٍ عميقة , وبمجموعة ٍ من التجارب والأسئلة التي تطرحها الذات على نفسها وتاريخها و حاضرها , حتى انه في بعض الأحيان من الممكن أن تصبح" الذات عينها كآخر ", إنها تعني في هذا السياق بأنه من الممكن إن تصبح الذات من المراجعات التي تطرحها على العناصر الثقافية والتاريخية لماضيها, إن تصبح اقرب ما يكون للآخر: المضاد والنقيض. وهذه المرحلة , مرحلة طرح الأسئلة على الذات والحاضر ومسائلة التاريخ بكل مراحله, هي من أكثر المراحل أهمية ً وحسما ً وتعقيدا ً فيما يتعلق بأي مجموعة بشرية تحاول الدخول في مراحل إنتاجية ومعرفية قادمة. اجترار القديم وإعادة تكراره بدون طرح أي أسئلة عليه, والقول بأنه لا يخضع لكل هذا التقدم المعرفي والمنهجي هو في حد ذاته عجز متراكم , يتصل بالذات المفترض إنها تطرح تساؤلات محرجة وحادة, على كل ما يتعلق بالقديم الذي يساهم في تشكيل المستقبل عن طريق الحاضر وتراكماته.

يرتبط الوعي بالأساس بالعديد من المستويات أو البنى التحتية , كما هي مصطلحات الماركسية, فهو (الوعي) , من المحتمل أن يكون انعكاسا ً أو امتدادا ً للمستويات الاجتماعية أو الاقتصادية.اختلفت الآراء حول أي العوامل أكثر تأثيرا على وعي الفرد , وأيها الأقل.

ارتبط الوعي بالعامل الاقتصادي ارتباطا ً كبيرا ً, فهو عامل مهم ومؤثر في توجيه اهتمامات وسلوكيات الأشخاص.
لقد ساهمت العوامل الاقتصادية الجيدة في اغلب الأحيان في استقرار الجماعات والأفراد , مما جعل النتائج الايجابية لهذا الاستقرار تساهم وبشكل ٍ واضح في ازدهار هذه المجتمعات أو تلك, بل وساهمت في نشوء المدينة أو الحاضرة حسب التعبير القديم. ونشأة التجمعات الحضرية واستقرارها مرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بالعديد من العوامل والاشتراطات الاقتصادية والثقافية والفكرية والأمنية. فإذا رجعنا للحواضر الكبيرة والمؤثرة في التاريخ, ونقصد هنا الحاضرة اليونانية في عصر ازدهار الفلسفة الإغريقية, والحاضرة العربية في عصر آل بويه أو في جيل مسكوية , أو في بداية عصر التنوير الأوروبي , نجد أن الجانب الاقتصادي ساهم بشكل كبير في الاهتمام بالكائن البشري وما نتج عن ذلك من علوم ومعارف ومن تنوع واختلاف كان له الدور الأكبر في إثراء الكائن البشري وتقبله للأفكار المختلفة وتلاقحها. فمن المتعذر على الكائن البشري تقبل الاختلاف والغيرية في ما يتعلق بالأفكار التي احتضنها واعتقد بها, إذا كانت العوامل الاقتصادية غير مواتية. كيف للكائن البشري أن يقبل بالاختلاف إذا كان الفقر والجوع يحاصره من جميع الجهات ؟ كيف للمجتمع أن يستمع أو يستوعب الأفكار الجديدة عليه إذا كان إفراده يتضورون جوعا ً, ولا يرون من الحياة إلا كيف يضاعفون الثروات قبل الأفكار, والحسابات المصرفية قبل بحثهم عن ما يرسّخ اختلافهم, ويوطّد اجتماعهم ؟ كيف لهذا الكائن المحاصر ماليا ً واقتصاديا ً أن يفكر في إنتاج ٍ حضاري وهو يتعرّض لأزمات خانقه؟

بإمكاننا القول بأن الاستقرار الاقتصادي هو المقدمة لكل الأنشطة المرتبطة بالكائن البشري , من إبداع معرفي, وإنتاج صناعي , وازدهار اجتماعي. ف بدون هذا الاستقرار لا يستطيع الكائن البشري الاستيطان, وبالتالي يصبح من المتعذر عليه أن يخلق أنظمة سياسية وفكرية واجتماعية, لأن هذه الأنظمة تحتاج لتوطين وترسيخ في عقول وأذهان وسلوكيات الأشخاص الفاعلين. لا تنحصر هذه الرؤية على المدن والحواضر القديمة بل هي متجذرة في السياقات الراهنة أيضا ً, بل إن هذه الرؤية تشمل حتى السياقات القادمة.

نختتم هذه الورقة بالسؤال المعروفة إجابته سلفا ً: هل الشروط السابقة للإنتاج الحضاري متوافرة في السياقات العربية الراهنة ؟ من الإجحاف الكبير أن تأتي الإجابة تقليدية, ف السياقات العربية الراهنة ليست متشابهة, ولكل سياق خصوصياته وميزات ينفرد بها عن بقية السياقات. لذلك ف كل سياق بحاجة ٍ لدراسة ٍ معمقة تشمل التاريخ والحاضر بكل تنويعاته وأطيافه. في المقابل نستطيع القول بأن الراهن العربي لا يختلف كثيرا ً برغم تعدد السياقات مما يعطينا إمكانية القول بأن السياقات العربية الراهنة مستهلكة في كل المجالات والنواحي , وتعيش حالة من التبعية الشاملة, بالإضافة لذلك فهي تساهم بطرق ٍ متعددة في إنتاج العوائق لكل إنتاج حضاري , سواء ً هذه العوائق فكرية أو اقتصادية أو صناعية. لا يعني هذا بأي حال ٍ من الأحوال أن الإمكانيات المستقبلية للإنتاج الحضاري في السياقات العربية الراهنة منعدمة أو لا يمكن إعادة إنتاجها, ف هناك شواهد عديدة, وإشارات مختلفة, توضح بأن هناك إمكانيات كامنة تحتاج لما يجعلها تنتقل من مرحلة الإنتاج بالقوة (الفكرة) إلى مرحلة الإنتاج بالفعل (التطبيق), بحسب تعبير الفلاسفة العرب القدماء. ولكن مرحلة الإنتاج بالفعل تحتاج ل جملةٍ من الاشتراطات والعوامل المتعددة, وليس إلى شرط ٍ واحد اعزل وهو الإرادة الشخصية أو الجهد الذاتي, بل لا بد من وجود مؤسسات مدنية تتبنى - على الأقل في المراحل الأولى - كل هذه المبادرات والجهود الفردية, والتي بدورها تساهم ولو بجزء بسيط في إنعاش روح الابتكار الفردي والجماعي.

1 comment:

Anonymous said...

العزيز علي الرواحي
ألف مبروك على هذه المدونة
خطوة جميلة ومفرحة
مع دوام التوفيق لأجل فضاءات أرحب وأجمل
عوض اللويهي