Wednesday, October 24, 2007

دفاعا ً عن الاختلاف وحق النقد...رؤية في القراءة (المحرميّة) لأركون.


نشرت صحيفة عمان في ملحقها الثقافي الاربعائي "شرفات " , في اعدادها (221,220,219) نشرت سلسلة من المقالات تحت عنوان "قراءة في فكر محمد أركون" للكاتب د.زكريا المحرمي.

تحاول هذه الورقة القيام بقراءة ٍ للقراءة المحرمية (نسبة إلى زكريا المحرمي) عن " أركون" ومنهجيته الفكرية والنقاط والمسائل التي جاءت في القراءة (المحرمية) , وهي لا تقترب من قريب ٍ او بعيد من شخصية الكاتب الذي نكن له كل تقدير واحترام, سواء ً على الجانب المعرفي ام على الجانب الشخصي.

من الضروري القول بأن هذه القراءة هي ليست للدفاع عن " أركون" ومنهجيته الفكرية فهو يستطيع القيام بذلك وهو بالفعل يقوم بذلك منذ زمن طويل بكل براعة ولباقة, بما يمتلكه من أدوات ٍ معرفية ولغوية ومنهجية, ولكن هذه القراءة هي للدفاع عن المسارات التاريخية للكائن البشري وعن حق التفلسف لهذا الكائن, بل وعن حيوية هذا الحق وضرورته. هذه القراءة هي للقول بأن هناك إمكانيات بل وضرورات للرؤية غير الدينية للقضايا والمواضيع والمسائل, فهناك ضرورات متعددة للقراءة الفلسفية المفقودة في الراهن العربي. لم تعد هذه القراءات الفلسفية والتي تتخذ التعددية المنهجية كوسائل, لم تعد ترفا زائدا ًً بل هي حاجة ماسة لإنفتاح الرؤية على العالم وعدم اقتصارها على الرؤية الدينية والفقهية والمذهبية تحديدا ً. ان تصدّر الرؤية الدينية على بقية الرؤى الأخرى في النظرة للوجود والنصوص , من رؤى صوفية وفلسفية وغيرها, لهي ظاهرة تستدعي الوقوف عندها, والبحث عن اسبابها وعوامل تصاعدها, والتأمل في نتائجها , ودور السياقات المعاصرة من سياقات ٍ تأويلية واقتصادية وفكرية. ولكن ليس هنا محلها.

الملامح العامة للقراءة (المحرميّة) :-

ثمة ملامح عامة تتسم بها هذه القراءة (المحرمية) وهي كالتالي :-

اولا ً ) تعتمد هذه القراءة على ثلاثة مراجع لقراءة (اركون) فقط , نقصد بذلك انه رجع لثلاثة مؤلفات من المجموع الكلي لإنتاج (اركون) الا وهي :-
أ‌) قضايا في نقد العقل الديني ...كيف نفهم الاسلام اليوم؟. دار الطليعة.
ب‌) تأصيل الأصول واستحالة التأصيل...نحو تأريخ آخر للفكر الاسلامي. دار الساقي.
ج) الفكر الاسلامي نقد واجتهاد. دار الساقي.

نقول هذا الكلام لأن الكاتب لم يشر في قراءته الا لهذه المراجع الثلاثة فقط , وهو ما يجعلنا نستعير عبارته التي اوردها في قراءته بأن "كثيرا ً من الانتقادات قائمة على قراءات مبتسرة للمشروع الاركوني الذي هو نتاج لحقبة زمنية ٍ متطاولة تعود الى سنة 1975" , فهل من الممكن ان نعتبر هذه القراءة قراءة موضوعية تهدف لفتح آفاق ٍ فكرية جديدة للمتلقي ؟ ام إننا نعتبر – وهذا من ضمن قراءات عديدة – هذه القراءة جاءت لإعطاء صورة مغايرة عن الصورة المعرفية (لأركون) ؟
لا ننكر الاهمية الكبيرة لهذه المراجع فيما يتعلق بالمنهجية (الاركونية) ولكن اذا رأينا المنهجية (الاركونية) في عمومها نكتشف ان هناك اعمالاً لاتقل اهمية عن المؤلفات السابقة بل ونستطيع القول بأن المؤلفات المحورية (لأركون) لم تصل الى يد صاحب القراءة (المحرمية). وهذه المؤلفات التي لم يطلع عليها صاحب هذه القراءة قادرة على تغيير هذه النظرة تجاه (اركون).

ثانيا ً) منهجية القراءة (المحرمية) هي منهجية تختلف كليّا ً عن المنهجية (الاركونية) في قراءة الاخير للنصوص والاحداث. فإذا تتبعنا بدقة نجد ان القراءة (المحرمية) هي قراءة دينية فقهية مذهبية , حاولت الدخول الى مجموعة ٍ من المناهج الفلسفية والتاريخية وما يتعلق بعلم النفس وعلم اللسانيات وغيرها من المناهج المتعددة والواسعة. هذا الفرق بين المنهجيتين هو ما ادى الى وقوع القراءة (المحرمية) في احكام القيمة التفاضلية البعيدة عن الحياد والموضوعية التي تحاول هذه القراءة ايصالها للمتلقي.

ثالثا ً) الانتقائية خارج السياق. تطرقت القراءة (المحرمية) لمواضيع محددة فقط في الطرح (الاركوني) , وهذه المواضيع وهذه الانتقائية تجعلنا نطرح تساؤلا ً حول اسباب التركيز على هذه المواضيع فقط واهمال بقية الجهود التي قام بها وما زال يقوم بها (اركون)؟ وهذه النقطة الاخيرة توصلنا لنقطة اكثر خطورة تتعلق بهدف هذه القراءة : هل هذه المواضيع - برغم اقتطاعها من السياق وهو ما سنوضحه لا حقا ً - كافية لإصدار هذه القراءة ؟ وبالتالي هذه الاحكام الحدية؟


نفي الثالث المرفوع :-

تبدأ القراءة المحرمية (نسبة إلى زكريا المحرمي) بموقف تصنيفي فيما يتعلق بالمفكرين المسلمين فهناك مفكرين منبهرين بالحضارة الأوروبية وآخرون اتخذوا موقف النكوص والتراجع عن هذه الحضارة وهذا الموقف أو هذا التصنيف ليس جديدا ً في الواقع ولكن الجديد هنا أن يتم التلميح بأن (محمد أركون) من المنبهرين بالحضارة الأوروبية. ف بما انه ليس من التصنيف الثاني الا وهو "السلفيين" حسب تعبير (المحرمي) فإنه من الطبيعي أن ينتمي إلى التصنيف الأول , حسب تصنيف (المحرمي) بالطبع.

فإذا ما تتبعنا كتابات ودراسات (أركون) نجد انه من المستخدمين أو من المستفيدين من النتاجات المعرفية والحضارية التي تأتي بها الحضارة الأوروبية. فليس كل مستخدم للإنتاج الحضاري المغاير لحضارته منبهر بها, ذلك أن الانبهار في هذا السياق, موقف غير واع ٍ بما يأتي به, أو فلنقل بأنه يأتي بآخر الموضات الفكرية والمنهجية بدون دراية وتمحيص ونقد لهذه المنهجية, والتي يحذر منها (أركون) دائما الباحثين الجدد والدارسين حاليا في الجامعات الأوروبية والذين يسعون للشهرة الإعلامية على حساب المنهجية الجادة في البحث. في الواقع لا يكف (أركون) عن الارتداد على المناهج المستخدمة في الغرب الأوروبي لدراسة القديم العربي ونقد هذه المناهج وإبراز ما فيها من نقص لا يتلائم مع السياقات المتباينة, بل انه أحيانا ما يدخل عليها تعديلات داخلية في هذه المناهج.

لا تتصور القراءة (المحرمية) , إمكانية وجود باحث من الممكن ان يخرج عن هذا التصنيف الثنائي التقليدي الضدي , فالباحث بحسب هذه القراءة اما ان يكون مع الحضارة التي يعيش في فضاءاتها المعرفية بكل ما يملك وان يخضع كل ما يتناوله بالبحث والتقصي الى منهجيات هذه الحضارة متجاهلا ً خصوصية كل حضارة على حده, او ان يكون ضدها وذلك بالالتفات او النكوص الى حضارته وترك كل ما من شأنه الاستفادة منه.
وهذه النقطة تعيدنا للملمح الثاني للقراءة (المحرمية) السابقة الذكر والتي من شأن هذه المنهجية عدم القبول بالمناطق الرمادية في التصنيفات او بالتداخلات المعرفية , انها رؤية دينية فقهية مذهبية حدية , ذات رؤية واحده , تحاكم منهج او مناهج متعدده.

ولكي لا نبقى في سماء التجريد نسارع بالقول بأن النقد (الاركوني) ناتج عن تلك القوة المعرفية , التي يتمتع بها الباحث, فهو (اركون) في معظم بحوثه وبإختلاف الحضور ومستوياتهم وامكانياتهم المعرفية المتينة والمرموقة , لا يتوقف عن هذا النقد المنهجي المعرفي من داخل هذه المناهج. سأورد هنا وفي هذه الفقرة نموذجين من هذه النماذج وهي موجودة في مؤلفات (اركونية) جاءت في القراءة (المحرمية) كمراجع , مما يضعنا امام تساؤل مضاعف حول اهداف القراءة (المحرمية).

اولا ً) في الصفحة(17) من كتاب (قضايا في نقد العقل الديني...كيف نفهم الاسلام اليوم؟) وفي مفتتح دراسته الاولى من هذا الكتاب وهي بعنوان ( كيف ندرس الاسلام اليوم؟ ...التواصل المستحيل) , يتحدث اركون هنا في بداية هذه الدراسة عن المخيال السلبي المشكّل عن الاسلام في الغرب , وهو في ذلك يقول للباحثين الغربيين والاوروبيين بأن تصدّر الحركات الأصولية و وصول الصورة العنيفة عن الإسلام للواجهة, لا تعنيان بأن الاسلام كله هكذا او انه يشجع على العنف والقتل , ولكن قبل ان تصدروا هذه الاحكام (والكلام موجه لبعض الباحثين الغربيين) عليكم ان تنظروا للواقع الذي يعيش فيه المسلمون. فهذا الواقع مليء بالقهر والظلم والفقر وعدم العدل وسوء التدريس وغيرها من العوامل الظرفية الزائلة والغير ثابته , اي ان هذه الحالة والاوضاع ليست من ضمن تكوين العرب والمسلمين وانما هناك ظروف تجعلهم يقومون بهذه الاعمال. وفي جانب آخرٍ ودائما ً, يخاطب الباحثين الغربيين بأنكم عندما كنتم في عصور الظلام والفقر والاستبداد كنتم تقومون بنفس الافعال تجاه بعضكم فلا تنسوا افعالكم قبل بداية عصر التنوير او اثناءه. من الضروري أن ترجعوا للحضارة العربية الإسلامية في عصورها الذهبية أي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي لتكتشفوا الانجازات والمناقشات والتعايش بين جميع التخصصات والأديان والمذاهب. كل ذلك حصل بالفعل في ذلك العصر في الحضارة العربية والإسلامية مما يعني بأن ما هو حاصل الآن ليس إلا موقف ظرفي وعابر.

ثانيا ً) في الصفحة ((72 من نفس الكتاب السابق , وفي دراسة عن المؤرخ وصديقه الحميم جدا (كلود كاهين ), وبعد ان يورد العديد من المواضيع التي ألح بها (اركون) على (كاهين) قبل رحيله بالطبع , وبعد تطرقه وبشكل ٍ سريع على العديد من القضايا التاريخية, يقوم بوضع مؤلفات صديقه (كلود كاهين) على محك تساؤلات ٍ منهجية ثلاث:-

1) مشاكل التقطيع والتقسيم :التقطيع طبقا ً للنطاقات الثقافية والحضارية , والتقطيع طبقا ً للتسلسل الزمني, والتقطيع طبقا ً للأقاليم والمناطق الجغرافية.
2) مشاكل المعجم اللفظي او المصطلحي المستخدم من قبل المؤرخ.
3) مشاكل المعرفة التاريخية.

لا داعي للقول بأن هذه العناوين الثلاثة للتساؤلات (الاركونية) حول منهج (كاهين), هي تساؤلات في عمق المنهج الذي يستخدمه المؤرخ , وهي بالمناسبة لا تنطبق على (كاهين) فقط وانما تنطبق ايضا ً وبشكل ٍ اعم على المنهج الماركسي الذي يتبعه المؤرخ (كاهين) في معالجاته حينما يتناول القديم الاسلامي.

بعد هذه الادلة التي اوردناها وبشكل ٍ سريع , نتسائل : هل (اركون) وهو يمارس النقد المعرفي العميق , منبهر بالحضارة الاوروبية ونتاجاتها المعرفية والمنهجية كما ألمحت بذلك القراءة (المحرمية)؟

قبل ان ندخل في الفقرة الثانية والمتعلقة (بالمنهجية الاركونية) نورد توضيحا ً ضروريا ً وسريعا ً. جاء في القراءة(المحرمية) بأن (اركون) قد تعّرض لكثير ٍ من النقد بخصوص استخدامه او تبنيه للمناهج المعرفية الغربية, والتوضيح من قبلنا كالآتي : بأن جميع المناهج النقدية والتحليلية والتاريخية بطبيعتها تصدم (الوعي) الساكن والمتصالح مع جميع مسلماته , وبأن جميع الرؤى الجديدة على المجتمعات التي تكشف عن تاريخية النصوص والافكار والرؤى, يتم مقابلتها بردود فعل ٍ سلبية وعنيفة , وليس (اركون) استثناءً من هذه المسألة. واذا تحدثنا عن ردود الافعال العربية فإن الوضع سيكون مضاعفا ً بلا شك ذلك ان العوامل والاوضاع الراهنة , الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية , لا تساعد على النقد ولكن الفجوة المعرفية التي يعيشها العرب والمسلمون لا تسمح بالمقابل بالتأخر أو بالمتاجرة في هذا النقد. لقد تعرّض (أركون) للهجوم من الطرفين , اقصد من طرف الباحثين الغربيين وطرف المسلمين, فهو في الجانب الغربي متهم بأنه "شيخ بدون عمامة" أو "شيخ حديث " جاء ليعيد الدين إلى الحياة من جديد بعدما تم تهميشه بعد الثورات المعرفية التي تعرض لها الغرب الأوروبي , وخاصة بعد رأيه في قضية (سلمان رشدي), بالإضافة إلى إصراره المتكرر وإلحاحه الدائم بضرورة إدخال الظاهرة الدينية الإسلامية حينما يتم دراسة الظاهرة الدينية بشكل ٍ عام. لقد أضاف انتقاده لتلك المنهجية الحرفية التي يسكلها بعض المستشرقين أو المستعربين في معالجتهم للظاهرة الدينية ووضعيتهم الزائدة عن الحد ونفيهم لكل ما هو غير مرئي في الحياة من اعتقادات وتقديس وعدم اخذهم في الحسبان كل ذلك ,اثار عليه الكثير من الانتقادات وردات الفعل العنيفة. اما فيما يخص الباحثين او المثقفين العرب والمسلمون والقراء بشكل ٍ عام , فحدّث ولا حرج, فالفجوه المعرفية التي يعيشها العرب المعاصرون لا تعطي الباحث والمؤرخ الفرصه لكي يستخدم المناهج المعرفية المختلفة على التاريخ والنصوص الاساسية في حضارتهم.

الاختزال المنهجي :-

منذ ما يزيد على الثلاثة عقود و(أركون) يمارس البحث والنقد والتحليل تارة , والاضاءة والتوضيح تارة اخرى فيما يخص الظاهرة الدينية بشكل ٍ عام والظاهرة الاسلامية بشكل ٍ خاص. وفي كل مرة يقوم بعملية معقدة وهامة او بالاصح بعمليات ٍ معقدة متشابكة وليس عملية واحدة. لقد تناول (اركون) خلال العقود الثلاثة الماضية المسائل المعقدة والمتداخلة في الظاهرة الدينية والاسلامية خصوصا ً. وهو في هذا البحث والنقد لم يضع خطوطا ً حمراء في البحث والنقد, بالاضافة الى ذلك فهو لم يأت بمنهجية ٍ واحدة لدراسة هذه المنظومة او بمنهجيتين, لقد جاء بمنظومة ٍ معقدة بعد ان مارس عليها التعديل والتهذيب. لقد استعان بعلم التاريخ الانتربولوجي: اي بعلم التاريخ للإنسان بما هو انسان بشكل ٍ عام. وهو في ذلك يستخدم منهج مدرسة المؤرخ الفرنسي (فرنان بروديل), وحسب هذه المدرسة فإن التاريخ البشري ينقسم لثلاث فئات:الفترة القصيرة لحدث ٍ يقاس بالايام والساعات, والفترة المتوسطة التي تقاس بعشرات السنين ,والفترة الطويلة التي تقاس بمئات او بالآف السنين. وهو في هذا العلم يتم معاملة الانسان بدون الاختلافات العرقية والدينية واللغوية. فهناك فرق كبير بين ان ننظر للظاهرة اية ظاهرة من خلال المدة القصيرة او المدة الطويلة للتاريخ. فإذا اردنا ان ننظر لمسألة ٍ ما , مثل التداخل النصي او النصانيه او التناص (بحسب الترجمات العربية) في النصوص المقدسة الكبرى, لا يكفي ان ننظر إليها في اطار المدة القصيرة بل يجب ان نمد الرؤية الى المدة الطويلة. لقد استعان أيضا ً بعلم اللسانيات وهو يبحث في اللغة بما هي لغة تتكون من حروف واصوات, وتتكون من خطاب وبما يشمله من مرسل ٍ ومستقبل وقناة توصيل وشيفرة تفاهم بين المتلقين , بغض النظر عن الاسقاطات النفسية التي يسقطها اصحاب هذه اللغة والنصوص عليها من تقديس وتميّز.
وبغرض التوضيح نقول بأن هناك سمات عامة تتميز بها اللغات بشكل ٍ عام بما هي لغات بعيدا ً عن الإسقاطات النفسية.
فهناك النسق الصوتي : وهو الذي يحدد نطق الكلمات أو أجزاء الكلمات وفق الأنماط المقبولة أو المتعارف عليها لدى الجماعة اللغوية.
النسق الدلالي: ويعني ترتيب الوحدات المعنوية وفق سماتها الدلالية المعروفة أو المقبولة في اللغة.
النسق الإعرابي أو النحوي: ويعني ترتيب كلمات الجملة أو الجمل في أشكالها المقررة في اللغة.
النسق الصرفي: وهو النسق الذي تعالج فيه أو من خلاله بنيات الكلمات وأنواعها وتصريفاتها واشتقاقاتها.
النسق المعجمي: ويقصد به مجموع المفردات اللغوية المتاحة للتعبير عن المعاني والمواقف المختلفة في إطار اللغة.
على هذه الاسس التي اختصرناها هنا وغيرها الكثير يحاول (أركون) دراسة السياقات الاسلامية بما تحويه من نصوص ومعتقدات ورؤى ضمن منظور ٍ عام كوني وشامل.
في الاسطر السابقة لم نحاول توضيح او شرح للمناهج التي يستخدمها(اركون) بقدر ما حاولنا اظهار كونية هذه المناهج وعموميتها, فهي لم يتم بلورتها لشعب ٍ او لعرق ٍ دون الآخر , بل هي من الممكن ان تستوعب معظم الشعوب والحضارات ان لم نقل جميعها.
ولكن لا يعني ذلك اننا قد شملنا المنهجية (الاركونية) جميعها , فهذه المنهجية منهجية فلسفية ,ومعنى ذلك انها تتوسل المفاهيم والمصطلحات بعد تهذيبها طبعا ً, لكي يتم معالجة الاحداث والوقائع الجديدة عليها.
لذلك اذا اردنا ان نتحدث عن المنهجية (الاركونية) فالخطوة الاولى كما أرى , هي في التوضيح والشرح المفاهيمي, اي في اظهار كل المفاهيم التي تحرك وتسيّر الفكر (الاركوني) بشكل ٍ عام. وبدون هذه الخطوة التأسيسية لن نستطيع استيعاب وهضم المنهجية (الاركونية).
هناك الكثير من المفاهيم التي لم تتطرق إليها القراءة (المحرمية) واكتفت هذه القراءة فقط بما يمكن تسميته بالخطوط العامة والنظرية. اي تلك التي تنطبق على جميع الاديان والمجتمعات. في حين ان هناك اضافات ٍ (اركونية) فيما يتعلق بالظاهرة الدينية والاسلامية تحديدا ً, وهذه الاضافات تأخذ الظاهرة الاسلامية وخصوصياتها بعين الاعتبار ضمن اطار الظاهرة الدينية الواسعة.
يلح(اركون) دائما ً على علم الاديان المقارن , وهو في إلحاحه هذا يحاول ان يزيل تلك النظرة التفاضلية التي يتمسك بها بعض الباحثين الاوروبيين, اذ يجعل بعضهم الدين المسيحي كدين ٍ متميز وقابل للعلمنة ومن الممكن مناقشة كل اعتقاداته , في حين ان بقية الاديان تستعصي على ذلك, والسبب ليس متعلقا ً بالدين ولكن بالمخيال المتشكّل عن هذا الدين.
ابرزت القراءة (المحرمية) في النقطة الثانية من فقرة المنهجية(الاركونية), ابرزت القاعدة الثانية وهي :"ابراز الابعاد المعرفية الواسعة التي عجزت اللغة العربية عن استيعابها والتعبير عنها والتدليل عليها" وقد اختزل (اركون) هذه القواعد في عبارة (جدلية الفكر- اللغة- والتاريخ او المجتمع), والكلام هنا وارد في القراءة (المحرمية). وفي الواقع هذه النقطة مرتبطة بشكل ٍ رئيسي مع الفقرة المعنونة في القراءة (المحرمية) ب"اللغة العربية والحصار المزدوج" ونحن اذ نوضح هذه الجدلية الثلاثية نرى انه لا يحتاج الى تفنيد الرؤية التي جاءت بدون مبرر في الفقرة المختصة من القراءة (المحرمية) بعنوان "اللغة العربية والحصار المزدوج", من نافل القول التأكيد على النظرة الجوهرانية الثابتة التي جاءت بها القراءة (المحرمية) فيما يتعلق بهذه الدائرة الجدلية , وهذه النظرة الجوهرانية وضعت اللغة بشكل ٍ عام وليس اللغة العربية فقط ك اقنوم ثابت لا يتأثر بما حوله.
يبدو أننا سنكون مدرسيين في هذه الفقرة , اي اننا سنتبع المنهج التعليمي في الطرح وذلك بهدف التوضيح وازالة الإلتباس المقصود فيما يخص جدلية (الفكر - اللغة – التاريخ او المجتمع).

في البداية لا يوجد تعريف اتفاقي حول اللغة وفي الواقع أن هذا الاختلاف مهم وفي نفس الوقت لا يمكن عرضه هنا لأننا نريد أن نبيّن الترابط بين هذه الدائرة الجدلية المستمرة (الفكر – اللغة – التاريخ أو المجتمع) , وبطبيعة الحال يتطلب منا أن نبيّن التعريفات لهذه الدائرة الجدلية , وسنبدأ باللغة.
اختلفت الآراء حول اللغة هل هي مواضعة واصطلاح أم وحي وتوقيف, وقيل في ذلك كلام كثير وسادت نقاشات واسعة حول هذه النقطة قد يكون من أهمها ذلك الجدل الذي دار في الفكر المعتزلي. فالذي يقول بأنها وحي وتوقيف يستدل بتلك الوحدة النصية (كما هي مصطلحات علم اللسانيات) أو كما تسمى في الفقه بالآية القرآنية "وعلم آدم الأسماء كلها" , كما طرح بعض الفقهاء و علماء اللغة بعض التوسعات حول هذه الوحدة النصية/ الآية , لماذا فقط الأسماء وفي اللغة أسماء وأفعال وحروف؟ ويعلل "ابن جنيّ" في عمله الهام "الخصائص", ذلك بقوله ( اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة، ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم، وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف والفعل، فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس والرتبة، على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها مما هو تال لها، ومحمول في الحاجة إليه عليها ) انتهى. أما فيما يتعلق بالقائلين بالمواضعة ف يطرح "ابن جني" ما معناه: وهو كيف نتعامل مع المستجدات الواقعية على الصعيد اللغوي ؟ وكيف نتعامل مع الترجمة من لغة ما إلى لغة ٍ أخرى؟
لا يمكن بأي حال ٍ من الأحوال حسم هذه المسألة او الوصول لإجابة ٍ نهائية في ما يتعلق بالسؤالين الواردين حول اللغة فيما اذا كانت اصطلاحية او نتيجة وحي؟ ذلك لأن الخلفية المعرفية للمتحدث تجعله ينحاز لمبرراته وأسبابه, ويتزايد هذا الانحياز إذا تعلق الأمر بوجود نصوص "مقدسة", كما هو الحال في وجود النص القرآني في الثقافة الاسلامية.

يضع "ابن جني " تعريفه للغة فيقول بأنها "أصوات يعبر بها كل قوم ٍ عن أغراضهم" وإذا أردنا أن نستنطق هذا التعريف ونجعله متحركا ً غير ساكن أمكننا القول بأن كل قوم في حالة طبيعية ٍ من الحركة والتبدّل في أفكارهم وأفعالهم وبالتالي فإن أغراضهم غير ثابتة وهذه الأغراض(الافعال والاقوال) نتيجة طبيعية للتفاعل سواء ً أكانت بين الأشخاص والكائنات أو كانت مع الأشياء.من هنا تأتي الإمكانية الكبرى لمواضعة اللغة وتوليدها عن طريق الكائن البشري.
بإمكاننا توسييع التعريف السابق ليشمل ايضا َ تلك الاشارات والرموز والايحاءات المتعارف عليها بين مجموعة لغوية , وهذه الاشارات تصبح عديمة التواصل اذا افتقدت لتلك الشفرة او الخلفية المعرفية التي تجمع بين المتحدثين. فلا يمكن ان نتصور ان يحصل تفاهم بين مجموعة من البشر من دون اشارات او رموز او ايحاءات او اصوات.
تتعرض اللغة مثلها في ذلك مثل الكائن البشري والدول والامم والحضارات للكثير من التغيّرات والتحولات, فهي(اللغة) ترتهن بالعديد من المعطيات والظواهر , بما فيها الظواهر المؤثرة على الكائن البشري من تفاعل وانعزال, وتواصل وجمود. وهذه المعطيات مرتبطة بالسياق الذي يعيش فيه الكائن البشري. ففي السياق الزراعي, اي اذا تحدثنا مع انسان يعيش في بيئة ٍ زراعية منعزله , فإننا نجده يتحدث في اطار القاموس البيئي الذي يحيط به , او الذي يتعايش معه. وهذا الامر ينطبق على جميع السياقات ومختلف البيئات. ف ألفاظ الانسان الذي يعيش في عصر الحداثة وما بعدها وقاموسه ينتميان لهذا العصر الما بعد الحداثي.
اذا اردنا ان نقوم بعملية مقارنة سريعة بهدف توضيح هذه النقطة الواضحة, سنأخذ على سبيل المثال تجربة الفيلسوف القرطبي "ابن رشد" وقاموسه اللغوي والاطار الفكري الذي يعبر به عن افكاره في زمانه واوانه , ونقارنه في ذلك مع "اركون" موضوع هذه القراءة.
لماذا نقارن بين علمين مؤثرين في الفكر الفلسفي , برغم الفارق الزمني بينهما ؟ لنظهر ارتباط القاموس المعجمي والمصطلحي بالسياق المعرفي.
من المعروف ان "ابن رشد" يمثل آخر الفلاسفة العرب في الحضارة العربية الاسلامية القديمة والمؤثر في خط سير الحضارة الاوروبية المعاصره, وهو يعتبر من المحركين للفكر الاوروبي قبل عصر النهضة الاوروبي. في حين ان "اركون" موضوع هذه الدراسة وهو معاصر لنا معروف من قبل المتلقي.
هذه المقارنة السريعة هي مقارنة من حيث القاموس المستخدم في توضيح الفكرة , ومعرفة سقف التفكير "الرشدي" داخل اطار عصره ولغته وبيئته.(تستلزم هذه المقارنة بحوث كثيره, ولكننا نقوم بها هنا بشكل ٍ سريع)
من المعروف ان الفلسفة الرشدية قادمة من المرجعية الارسطية , بالتلاقح مع الشريعة والفقه بالطبع, وهو يعيش في بيئة ٍ فقهية تحتقر الفلسفة , فهي تطلق عليها "العلوم الدخيلة" كما هو الحال الآن مع علوم الانتربولوجيا( علم الانسان) و اللسانيات والسيميائيات(ما اشبه الليلة بالبارحة) وغيرها , بالرغم من انه "ابن رشد" فيلسوف كبير, إلا انه لا يستطيع ان يتجاوز عصره فهو يبدأ مؤلفاته الفلسفية بمقدمة ٍ دينية حتى ان القاريء يعتقد انه سيقرأ خطبة دينية وليس كتاب فلسفي, وهو في محاولته افساح المجال للفلسفة في ثقافته المعاصره يبدأ بالبحث عن مرجعية من النص القرآني ليثبت ان النظر العقلي في حكم "الندب" وان الشرع قد حث على النظر في الموجودات , "وان النظر البرهاني لا يؤدي الى مخالفة ما ورد به الشرع"(فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال, ابن رشد). ما الذي اجبر "ابن رشد" وهو الفقيه الفيلسوف المتبحّر في العلوم العقلية والعلوم النقلية (بحسب التصنيف القديم) , مالذي دعاه الى استخدام هذه الاستراتيجية في افتتاح مؤلفاته الفلسفية؟ نطرح هذا السؤال بالرغم من معرفتنا المصير الذي جناه "ابن رشد" من استخدامه لهذه الإستراتيجية المخاتلة من الناحية المعرفية.
وفي مجال ٍ آخر نجد ان "ابن رشد" في حديثه عن مسألة دور المرأة والرجل في تكون الجنين نجد انه ينحاز الى ان ما يفرزه رحم المرأه من سوائل لادور له في الحمل وان الرجل هو وحده الذي يرجع إليه الجنين, بالرغم من انه قد سأل بعض النساء إلا ان اجابتهن كانت هكذا , وفي ذلك ينحاز الى ارسطو ورؤيته.لم تكن الاطر المعرفية تسمح "لإبن رشد" بالحديث خارج هذا الاطار بالرغم من ان "جالينوس" قال بأن السائل الذي يخرج من الرجل له نفس الدور للسائل الذي تخرجه المرأة. إلا أن المرجعية المعرفية الأرسطية تفوقت على "جالينوس". ما اريد ان اقوله بأن اللغة مرتبطة مع الفكر والبيئة /المجتمع او السياق وهي في ذلك محصورة ضمن اطر معينة وسقف خاص بالتفكير. فهناك مواضيع لا يمكن التفكير فيها في حقبة زمنية معينة ولكنها تصبح فكرة شائعة ويتم الحديث عنها بحرية اكثر في فترة مختلفة. هل يمكن التفكير في بداية عصر الدعوة المحمدية باستخدام هذه التقنية الوسائطية؟ او سرعة التنقل وانتشارها ؟ هل كان يمكن التفكير في مفهوم المواطنة كما هو في العصر الحالي ؟
لذلك نجد ان كتابات "ابن رشد" لا يمكن ان تخلو من القاموس او المصطلح المعجمي الديني حتى وهو يعبر عن الفلسفة واهميتها.
اذا اردنا ان نتجه الى القاموس"الاركوني", سنجد انه قاموس معاصر للعلوم الاجتماعية والفلسفية واللغوية العالمية, نجد هذه الملامح منتشرة في قاموسه اللغوي وفي الاحالات والمراجع التي يعتمد عليها لتوضيح افكاره , ولتبيين مقاصده. وفيما سبق بعض من الشرح والتوضيح.

الفكر مرتبط بالسياق ارتباطا ً وثيقا ً, واللغة ترتبط بهما, لأننا نعبر من خلالها. كيف يعبرالفيزيائي عن العالم الا من خلال مصطلحات الذرة والسرعة والقوة ... وغيرها. وكيف للفيلسوف ان يتحدث بدون مفاهيم او تعريفات او بدون ذكر ٍ للمرجعيات المعروفة في المجال الفلسفي؟ والامر ينطبق على الفقيه واللغوي وغيرهم.
اجد نفسي مجبرا ً على الرجوع لذلك التوضيح فيما يتعلق بعلم اللغويات او الالسنيات, بين اللغة والكلام.
اللغة هي ذلك المخزون اللغوي المعجمي الكبير للكثير من التصريفات والاشتقاقات اللغوية الموجودة في اللغة كمخزن ٍ معرفي ومعجمي. اما الكلام فهو مجموع المفردات والمصطلحات المستخدمة من قبل الجماعة اللغوية في فترة ٍ زمنية ٍ ومكانية معينة. وعندما يقول "اركون" ذلك فهو يقصد وكما اوضحنا سابقا ً بأن الاطر المعرفية والفكرية لا تسمح بذلك. توجد موانع متعددة واكراهات مختلفة. مثل النصوص العقائدية , او السياق المعاصر, أو المسيرين لشؤون التقديس(كما يقول ماكس فيبر) ويقصد بهم الفقهاء. هل يمكن التحدث هذه الايام في السياقات العربية والاسلامية المعاصرة وفي ظل تصاعد الاصولية الدينية وهيجانها عن "موت الإله" او "انحسار التقديس" كما صرخ ذات يو م الفيلسوف الالماني "نيتشه" (لا يمكن أن نفهم هذه الصرخة إلا في سياقها التاريخي) ؟ أو هل يمكن الآن مناقشة تلك القضايا التي اثارتها المعتزلة ؟ أو التي أثارها التوحيدي و مسكويه في كتاب الأول بعنوان(الهوامل والشوامل)؟ أم هل يمكن أن نعيد ذلك الرأي للفيلسوف الفارابي حول التمييز بين النبي والفيلسوف , والذي جعل الفيلسوف في مرتبة ٍ أعلى من النبي لأنه يتلقى الحقائق بواسطة العقل؟

الأفق المعرفي العربي المعاصر, محاصر برؤية واحدة تقريبا ً ألا وهي الرؤية الدينية, ف جميع الرؤى الأخرى تم استبعادها من الآفاق المعرفية للجماعات اللغوية. أقول تم استبعادها ونفيها من القاموس اللغوي المعاصر. فهي في يوم ٍ ما كانت متداولة في اللغة العربية, بل وكانت في العصور المزدهرة والمنفتحة للحضارة العربية والإسلامية, كانت اللغة العربية مرجعا ً معرفيا ً مهما, بل وكانت تستقطب الفلاسفة والمفكرين والعلماء, من كل بقاع الدنيا. لم نجد مفكراً معاصرا ً يشتغل على الوجود لا بالرؤية الصوفية أو بالرؤية الفلسفية أو غيرها.
لذلك نجد إن الإطار المعرفي المسموح التفكير به حاليا ً هو بين الحلال والحرام. أو هل يجوز هذا؟ وما حكم ذاك ؟ وما قول سماحتكم في هذه الحادثة؟ وما رأيكم أيها المشائخ الفقهاء الكرام في كذا وكذا؟
لقد تدنى مستوى التفكير وتدنت بالتالي مستويات الرؤى المعرفية وليس غريبا ً أن تأتي اللغة كنتيجة ٍ طبيعية لهذا التدني الشامل والعام, على جميع المستويات والأصعدة. لنحاول أن نتوسع قليلا ً في هذه الرؤية , ونتسائل ما هو وضع من يخالف التصورات الفقهية القادمة من قبل "حراس العقائد وسدنة الأفكار", أولئك الذين يتمتعون بالمكانة الاجتماعية والمقربين من السلطة السياسية ؟

التاريخية و فقدان الارضية المفاهيمية :-

في هذه الفقرة نصل الى النقطة المركزية والمحورية في القراءة (المحرمية), وهذه النقطة جاءت بعنوان (القرآن ودعوى الفوضوية والانتحال). في رأينا ان الفقرات المتعلقة بالنص المقدس عند المسلمين اللاحقة لهذه الفقرة هي نقاط الارتكاز في القراءة (المحرمية) , فالفقرات السابقة ما هي الا مقدمات لهذه الفقرات . فالفقرتان السابقتين بالرغم من الرؤى الايدلوجية الواضحه فيهما والمستترة ايضا ًالا انهما جأتا كتمهيد ٍ ايديولوجي للدخول في هذه الفقرة وللتاثير على المتلقي الغير مطلع على الطرح (الاركوني). التأثير هنا بمعنى الطرح غير الموضوعي والمؤدلج, والهادف الى(تشويش) الرؤية الاركونية.
اذا حاولنا ان نستكشف هذه الفقرة والفقرات اللاحقة عليها, فإننا بحاجة ٍ الى جهد ٍ كبير وطول صبر من القاريء والكثير من المراجع الغير متوفرة باللغة العربية والتي تجعلنا نشعر بالكثير من النقص فيما يخص الدراسات القرآنية وهي في الواقع متوفرة وبكثرة في اللغات الاخرى الالمانية والفرنسية. لماذا لم تتوفر هذه الدراسات التأريخية عن القرآن في لغة القرآن بينما هي متوفرة بلغات ٍ اخرى ؟ لأن الباحثين العرب والمسلمون ما زالوا واقعين تحت ضغوط ٍ كثيرة واكراهات ٍ متعدده, اكراهات نفسية ومنهجية ولغوية والاكثر من ذلك الخوف من المجتمع وردات فعل الاصوليين المتزايده يوما ً بعد الآخر.في الواقع لا تمثل هذه الدراسات تهديدا ً للنص القرآني وانما هي تحميه من الاستخدامات المتزايده في كل المواضع وتجعله في نفس الوقت بمنأى عن التوظيفات الايدلوجية.
نعم تتوفر في اللغة العربية تفاسير تبجيلية وتقليدية وتجميعية واعجازية , وهذه التفاسير للأسف الشديد لم تخرج عن الرؤية البيانية للقرآن او الرؤية التبجيلية , او البحث عن (الاعجاز العلمي) في القرآن , وهي في ذلك بالطبع بعيدة ً كل البعد عن مناهج علم اللسانيات ومنهج علم التأريخ وعلم التناص او التأثير بين الاديان. ولكي نكون موضوعيين فإننا نقول: بأن هذه التفاسير لها جمهورها ولها مناصريها, يكفي ان ننظر للمحاضرات والندوات التقليدية التي تعاد كل يوم في الجوامع والمساجد لنرى حجم هذا الإقبال والحضور عليها. اما لماذا تلقى كل هذا الحضور؟ الاجابه بكل بساطة لأنها تسبغ على المستمعين الطمأنينة والهدوء وتمنحهم الكثير من التواصل مع ما يعتبرونه مقدسأ.
كيف من الممكن ان نتحدّث عن التاريخية او ضرورة القراءة التزامنية والبعد عن القراءة الاسقاطية فيما يتعلق بالنصوص العادية او النصوص المؤسسة؟
كيف لنا ان نفرق بين الانتحال وظروف المجتمعات الشفهية والتعقيدات المصاحبة لها في مجتمعات ٍ لاترى من التاريخ الا العنعنه والروايات التاريخية؟
في مفتتح الفقرة الثالثة(القرآن ودعوى الفوضوية والانتحال) جاء في القراءة(المحرمية) وبشكل ٍ سريع عرض (للمنهجية) (الاركونية) , وهذا العرض لم يتجاوز فقرتين اثنتين. هل مقارنة القرآن مع الكتب المشابهة له في الثقافات الاخرى:التوراة والاناجيل. هل هذه المقارنة هي كل المنهجية (الاركونية) ؟ لماذا تم اختزال وابتسار المنهجية (الاركونية) في هذه النقطة الهامة؟ لماذا تم تجاهل بقية الخطوات المنهجية الاخرى مثل علم التاريخ النفسي :اي ذلك التاريخ الذي يأخذ بعين الاعتبار المؤثرات الغير مرئية في مجرى التاريخ للمؤمنين ,او البعد الايماني. لماذا لم يتم الاشارة في القراءة (المحرمية) الى علم اللسانيات وتاريخية النص وغيرها؟
بعد مقدمةٍ سطحية وعرض غير منهجي للمنهجية (الاركونية) يتم ايراد ست نتائج. فكيف للبحث الموضوعي ان يتوصل لنتائج من خلال مقدمة لا تتجاوز الخمسة اسطر فقط ؟ هل هناك عقل فيضي يساند هذه القراءة؟ ام ان هناك خفايا لم يتم عرضها على المتلقي؟ وما الهدف من عدم العرض هذا؟

في النتيجة الاولى ينبغي ان نوضح ما الذي جعل (اركون) يصك هذا المصطلح الجديد كليا ً في الثقافة العربية اقصد مصطلح :المدونة النصية الرسمية المغلقة. واحلاله محل مصطلح القرآن المتعارف عليه؟ فهو في الواقع يشير الى نفس الكتاب وهو المتعارف عليه بالقرآن. عن طريق هذا التفريق الضروري من الناحية المنهجية يحاول(اركون) نزع تلك الشحنة الدينية المسبغة على القرآن, ومحاولة قراءته في ضوء المعطيات التاريخية التي حصلت في تلك الفترة .انه يشير الى تلك العمليات التي حصلت في التاريخ عندما تم اتلاف بقية النسخ المكتوبة من المصحف وهي ما تسمى في كتب التاريخ القراءات السبع او العشر. لقد تم هذا الاتلاف بناء ً على قرار ٍ رسمي من الخليفة في ذلك العصر:عثمان بن عفان , بالاضافة الى ذلك فقد تم الابقاء على القراءة القريشية اي بلغة قريش. وسبب تسميتها بالرسم العثماني نسبة ً الى الخليفة عثمان بن عفان. وهي مغلقة: اي انها لن ستقبل بالزيادة او النقصان بعد هذا الترسيم العثماني والختم الرسمي.انها نهائية منذ ذلك الحين.
من الضروري قراءة القرآن كنص ٍ مكتوب باللغة العربية بغرض الفهم والتدبر بعيدا ً عن تلك القراءة الشعائرية والطقسية والتي بدورها تفرض على الباحث والقاريء العديد من القيود وتضيف عليه الكثير من الهيبة اللاهوتية الهائلة. يكفي ان يتم توظيف اي وحدة نصية من القرآن او الاستشهاد بها حتى يتم التوقف عن التفكير واستبعاد المنطق غير مراعيين بذلك تلك الظروف التاريخية المحيطة بلحظة صدورها.

في النتيجة الثانية يتم التطرق لمصطلح ٍ قد يبدو غامضا ً ومحاطا ً بالشكوك في الثقافة العربية الاسلامية, وهو في الواقع ضروري لفهم كيفية التعامل من قبل الفاعليين الاجتماعيين في مجتمع ٍ شفاهي لم ينتقل بعد لمرحلة الكتابه والتدوين.هناك سمات معينة تتسم بها المجتمعات الشفاهية اي تلك التي لا تعتمد على الكتابه لحفظ الاحداث والوقائع وانما تعتمد على الذاكرة والحفظ والصوت. تعتبر هذه السمات سمات مشتركة في هذه المجتمعات. من ابرز هذه السمات"النظر الى الاسماء بوصفها ذات سلطان على الاشياء" (اونج:الشفاهية والكتابه ص75, عالم المعرفة العدد182), وهذه السمة تجعلنا نسترجع الكثير من الممارسات الشائعة حاليا ً والتي كانت تمارس في عصر انبثاق الدعوه المحمدية.فمن المعروف وحسب المرويات التاريخية ان آلية تسمية الاشخاص في ذلك العصر, تعتمد على الفأل او التطيرّ , ف الاسماء الجيده للعاملين معهم او لعبيدهم (حسب المصطلح الذي كان متداولا ً) , بينما يسمون ابناءهم بالاسماء السيئة وذلك لتوجيه هذه الاسماء للأعداء , كما اورد ذلك(القلقشندي) في (صبح الاعمى).
من السمات المشتركة في المجتمعات الشفاهية, ضرورة ارتباط المواضيع والقضايا بوجود محاور واحد او اكثر لتتم عملية التواصل والتوصيل. وذلك بهدف نشر هذه المواضيع, ولكن ذلك لا يعني امكانية تطابق بين الاطراف جميعها. لماذا ؟ لأن جميع الاطراف يعتمدون على الذاكرة والحفظ. ولكي تصبح عملية التذكر ممكنة ومقبولة, جاءت الجمل والعبارات, على شكل جمل متكررة او متعارضة او في كلمات ٍ متجانسة الحروف الاولى ومسجوعة(لننظر للخطب الحالية ونقارنها بالجمل والخطب العربية القديمة), ولتتم هذه العملية(التذكر) فإن هذه الجمل تأتي على صيغة امثال وقصص وذلك لتسهيل الحفظ والتناقل.
لا يكترث العقل الشفاهي للتعريفات, لذلك نجد بأن نسبة التعارضات الدلالية قليلة مقارنة مع المجتمعات الكتابية¸ولذلك نجد ان المجتمعات الشفاهية تخلو من القواميس والمعاجم. ذلك ان الالفاظ يتم التحكم فيها عن طريق "التصديق الدلالي المباشر" (اونج: نفس المرجع. ص91). اي ان هذه العملية اللغوية المعقدة, وجود تعريفات وقواميس,تحتاج لمجتمع ٍ كتابي يتداول المعرفة ويتحاور حول المفاهيم, وعن طريق هذه العملية تبتعد الالفاظ عن التصديق الدلالي المباشر ليصبح المعنى احتمالي وتأويلي وقابل للعديد من الرؤى.
بناء ً على هذه المقدمة السريعة والبسيطة نستطيع القول بأن النتيجة الثانية الواردة في القراءة (المحرمية) عن الفروقات بين المجتمعات الشفاهية والمجتمعات الكتابية هي فروقات طبيعية وان عمليات مثل الحذف والانتخاب والتلاعبات اللغوية تصبح طبيعية, وليست شيئا ً مستغربا ً اوانتقاصا ً من المجتمعات الشفاهية وكل ما تحاول انتاجه.

في النتيجة الثالثة وكما جاء بالطبع في القراءة(المحرمية),تنطلق المنهجية(الاركونية) من منظار ٍ واسع, الا وهو منظار الظاهرة الدينية بعموميتها, وعندما نقول الظاهرة الدينية فإننا نقصد تلك الظاهرة الدينية التي يتم استبطانها وممارستها من قبل المؤمنين بهذه الديانة او تلك. وهو من هذا المنظار الواسع يتعامل مع الاديان كظاهرة ٍ انتربولوجية عامة , وبأن التقديس بالرغم من تباينه بين المجتمعات المختلفة, ضروري للكائن البشري. يجب ان ننظر للكتب المقدسة بمنظور ٍ واسع وان لا ننتقص من قيمة بقية الاديان, لأن هناك قواسم مشتركة بين هذه الديانات من كتاب ٍ مقدّس او كتب مقدسه, وطقس تعبدي , ومعتقد استبطاني , واماكن مقدسة.ان الفروقات التي توردها ديانة معينة للإنتقاص من بقية الديانات, ان هذه الفروقات موجودة في كل ديانة ,وفي المقابل ان عملية التفاضل ما هي الا عملية اسقاطية, ذلك ان عن طريق المقارنة بين الاديان وتواريخها نكتشف بأن جميع الاديان قد مرت بنفس الخطوات والحالات تقريبا ً. وبالتالي فإن ما حصل للكتب المقدسة من قراءات ٍ ألسنية وتاريخية, من الممكن بل ومن الضروري ان يحصل للكتب المقدسة الاخرى.

اذا انتقلنا للنقطة الرابعة او النتيجة الرابعة فلكي نتحدث فيها يكفي ان ننظر للكتب الفقهية المختصة بعلوم القرآن , وبشكل ٍ خاص "اسباب النزول" لنفهم هذه النقطة جيدا ً.

سنتجاوز النتيجة الخامسة لأننا من الممكن ان نعتبرها بمثابة مشروع كبير بحاجه للكثير من فرق البحث والمحققين العلميين , وهي مرحلة ضرورية وان تأخرت كثيرا ً.

في النتيجة السادسة في القراءة(المحرمية) نصطدم بالاقتطاع الواضح للنص عن السياق الأصلي الذي ورد فيه. ففي النص الوارد في القراءة(المحرمية) وفي هذه النتيجة بالتحديد نجد ان الاقتباس يبدأ ب(جميع انماط القراءة التي استعرضناها ....) فعن اي انماط للقراءت تتحدث القراءة (المحرمية)؟ هل ما سبق من نتائج هي عبارة عن انماط للقراءة؟ هل نحتاج للقول بأن انماط القراءة المقصودة في السياق(الاركوني) هي تلك الانماط التي يتم بها قراءة المدونة النصية الرسمية المغلقة(القرآن) والقراءات المقترحة من قبل علم اللسانيات وعلم التأريخ , والنتائج الايجابية المتوخاة من هذه القراءات , وتلك القراءات والمنهجيات التي تم تطبيقها من المدرسة الألمانية على يد (ثيودرو نولدكه – 1836-1930) الذي أصدره في العام (1860) في عمله الهام جداً (تاريخ القرآن) , والذي ناقش فيه مسألة التسلسل التاريخي للسور والآيات القرآنية مقترحا ً في هذا الإطار ترتيبا ً لها يختلف عن الترتيب الموجود في المدونة الرسمية المغلقة, يقوم هذا الترتيب على أسباب النزول , أي بحسب زمن نزولها المعهود في الإسلام.
لا يمكن مغادرة هذه النتيجة السادسة دون الحديث عن الدور الايجابي للمستشرقين فيما يتعلق بالدراسات والبحوث وتحقيق الكثير من الكتب المفقودة واعادتها للحياة مرة اخرى فيما يخص الحضارة العربية والاسلامية, ف بالرغم من الدور السلبي الذي حاولت القراءة (المحرمية) ايصاله للمتلقي عن المستشرقين الا ان الواقع الموضوعي والتاريخي لا يمنحنا فرصة التغاضي عن الدور الهام الذي قاموا به , وهذا الدور الايجابي لا يعني ايضا ً انه لا يوجد للمستشرقين اي دور سلبي.
هل نتحدث عن تحقيقهم للمخطوطات القديمة والتي تعتبر من امهات الكتب في التاريخ والتراث العربيين ؟ ام نتحدث عن تلك المخطوطات المنتشرة في المكتبات الاوروبية؟ هل يستطيع العرب والمسلمون الذين ينتمون للحضارة العربية والاسلامية القيام بكل تلك الجهود في هذه السياقات العربية المتردية؟ كيف يمكن لنا ان نتحدث عن (جوزيف شاخت) وتلك الجهود التي بذلها في تحقيقه للمخطوطات الكثيره والهامه؟ وغيره الكثير من المستشرقين المتعددي الجنسيات. في الواقع لا يمكن ان نضع الجهود التي قام بها المستشرقون في كفة ٍ واحده فهناك ايضا ً الدراسات اللغوية والعلمية فيما يتعلق باللغة العربية والعلوم التي نشأت في الحضارة العربية ابان عهدها الذهبي مثل علوم الفلك والرياضيات والمنطق وغيرها , هذا ناهيك عن الرحلات والاستكشافات الاثرية. لقد بذل المستشرقون جهودا مضنية ساهمت في اعادة تاريخ الحضارة العربية الاسلامية الى وضعه التاريخي والذي لولا هذه الجهود لظلت الفجوة المعرفية قائمة ومستمرة في التاريخ البشري العام.

المنهج الفلسفي وانعدام اليقين:-

في الملمح الثاني من ملامح هذه القراءة قلنا بأن هناك اختلاف منهجي كبير بين الرؤيتين, فالمنهجية (الاركونية) فلسفية وتاريخية وألسنية مرتبطة بعلم النفس و السيميائيات وغيرها, في حين ان منهجية القراءة(المحرمية) , هي ذات رؤية دينية فقهية مذهبية. تتحدث القراءة (المحرمية) عن ان (هناك خلط بين دوائر المعرفة اليقينية والمعرفة الظنية) يتعلق هذا الخلط طبعا بالمنهجية (الاركونية) كما ترى الرؤية المحرمية.

في البحث الفلسفي لا يمكن بأي حال ٍ من الاحوال الحديث عن يقين, فالفلسفة بحث وتساؤل دائم.اسلوب في التفكير غير نمطي, حفر, تقصي, نبش, اكتناه للمجهول,رحلة معرفية مستمرة,انها اللايقين الدائم على المستويات المعرفية والتاريخية. في حين ان الرؤية الدينية تهدف الى وصول الكائن البشري لليقين والسكون والطمأنينة, ذلك ان الرؤية الدينية تمتلك كل شيء, كما يرى انصار هذه الرؤية, وبما انها تمتلك كل شيء يصبح السؤال بمثابة العتبة الاولى للدخول الى المحظور والممنوع. تنطلق الرؤية(المحرمية) مثلها في ذلك مثل الرؤية الدينية بشكل ٍ عام, تنطلق من قاعدة فقهية تنظر للوجود بمعزل ٍ عن السياقات والتفاعلات التاريخية الطبيعية التي تحدث في المجتمعات بإختلاف التصنيفات , وصراع الطبقات والمصالح واختلاف الايدلوجيات. انها رؤية مثالية تسقط على الفاعليين الاجتماعيين صفات تجعلهم بعيدين كل البعد عن الكائن البشري بشكل ٍ عام. فإذا اتينا للتواتر وشروطه, نجد ان الشرط الرابع وهو "استحالة التواطوء على الكذب", ومعنى ذلك ان هذه المجموعه لا يمكن ان تمارس الكذب والاختلاق وذلك لمعصوميتها ولعددها وصفاتها. تختلف هذه الرؤية المثالية عن تلك الاختلاقات النصية والمعارضات التي تحاول ان توقف من مسيرة الدعوة المحمدية عن طريق وسائل وطرق متعددة.

تقول الرؤية(المحرمية) ما يلي"فلهذا يجدر بنا ان نصف الاخبار التي اجتمعت عليها الامة بإنها اخبار متواترة بينما الاخبار التي يرويها اهل مذهب واحد مهما كثر عددهم ولا يرويها غيرهم من اهل المذاهب الاخرى بأنها مشهورة مذهبيا ً" نتسائل هنا عن تحقق"الاخبار التي اجتمعت عليها الامة" هل وجدت هذه الاخبار؟ هل تواترت الامة على خبر معين مهما كان هذا الخبر؟ قد تكون الوحدانية هي المسألة الوحيدة المجمع عليها, اما فيما عدا ذلك فمن الصعوبة وجود ما يسمى بالتواتر او الاجماع.
في فقرة "جمع القرآن وترتيبه" تنكشف اهداف الرؤية(المحرمية) او اهداف القراءة(المحرمية) , ف هذه الرؤية وصلت لنتيجتين: الاولى: ان هناك خللا ً في الرؤية (الاركونية) تجاه النقاط السابقة. ومصدر هذا الخلل هو- وهذه النتيجة الثانية- ان(اركون) لم يستصحب اليقين المعرفي بل انطلق من مرويات انفردت بها مدرسة اهل الحديث التي تزعم ان جمع القرآن تم بعد وفاة النبي.
لم يكن هدف هذه (القراءة) اذن مناقشة افكار(اركون) بكل موضوعية وحياد بل الهدف كما هو واضح تبخيس الرؤية (الاركونية) عن طريق القراءة المذهبية (لأركون). ما اقصده بكل وضوح ان القراءة (المحرمية) عاملت (اركون) برؤية مذهبية وليس برؤية ٍ معرفية. تلبس هذه القراءة ثوب المعرفة وتتقمص الرؤية الموضوعية في حين ان الرؤية المذهبية هي المحور الاساسي لهذه الرؤية.
تتحدث الرؤية(المحرمية) عن ان هناك اشكالات وقع فيها (اركون) نتيجة لعدم اخذه بالرؤية الاباضية فيما يتعلق بجمع القرآن , وهذه الرؤية محقة في هذه النقطة, فعلى مدى الاعمال (الاركونية) لم يتطرق للرؤية الاباضية, ولكن ذلك ليس حصرا ً على (اركون) فقط. فهناك الكثير من المفكرين مثل (محمد عابد الجابري) و (نصر ابو زيد), لم يتطرقوا الى هذه الرؤية, فلماذا الحديث هنا فقط عن(اركون) واهمال بقية المفكرين؟ الا يجدر بالقراءة (المحرمية) ان توضح وجهة نظرها بالتعارض مع المفكرين السابقين ذكرهم وغيرهم ايضا ً و عدم حصرها مع(اركون)؟

لم تطرح الرؤية (المحرمية) اسئلة حول الاسباب التي ادت الى عدم الاخذ بالرؤية الاباضية من قبل(اركون)؟ هل هذه الاسباب تتعلق بالباحث وميوله الذاتيه ام بالتراث الاباضي المجهول حتى في الارض لتي نشأ فيها هذا التراث؟ الا تتعلق هذه النقطة بالمؤسسات الراعية لهذه الرؤية ودورها في ابراز هذه الرؤى بشكل ٍ إعلامي ومعرفي كاف ٍ ؟ لماذا لم تتطرق هذه القراءة إلى ذلك الدور الذي يمارسه الفقهاء الاباضيون وحصر جهودهم في إصدار الفتاوى والتحليل والتحريم(تشمل هذه النقطة جميع الفقهاء, أي إنها ليست حصرية) مبتعدين في ذلك عن التجديد المعرفي أو الكشف المعرفي في اقل الأحوال؟

ثم قبل ذلك هل توجد هناك آراء اباضية فقط ام ان هناك نظرية تتعلق بجمع القرآن؟ بمعنى آخر هل يمكن الاعتماد من الناحية التاريخية والمعرفية على الرؤية الاباضية والاحتكام اليها؟ اتحدث هنا عن الناحية التاريخية وليس من الناحية النفسية, والمذهبية؟ يجب ان لا يعمينا التعصب المذهبي عن الرؤية التاريخية التي تأخذ بالحسبان كل ما يتعلق بالتفاعلات الاجتماعية.
اقصد بالفقرة الاخيرة وبكل وضوح هل تكفي آراء واقوال بعض العلماء من المذهب الاباضي , ان تجعلنا نقتنع بما اوردوه دون اي تساؤل نقدي وتاريخي؟ اشدد هنا على كلمة آراء واقوال.

مزرعة التراث او الاسمدة السامة:-

في الفقرة الاخيرة من القراءة المحرمية والتي جاءت بعنوان( منهج اركون وصراع الهوية) يصطدم القاريء بالكثير من الاستعارات التي تعبر عن المخزون الفكري والمفاهيمي للقراءة(المحرمية) وما يحركها.

جاء في هذه الفقرة ما يلي(لقد انطلق اركون معترفا ً بمرجعيته الغربية في مزرعة التراث العربي والاسلامي لا زارعا ً لشجرها وحاصدا ً لثمرها بل ليخضدها بالتجربة الغربية على مستوى الاصل حيث العبث بالجينات والا حماض النووية, وعلى مستوى الفرع حيث استخدام الاسمدة الكيماوية السامة) انتهى الاقتباس.
من هذه الفقرة المزدحمة بالاستعارة والمكتظة بالمرجعيات والمختلطة بالتجارب نستطيع ان نكتشف اساليب وطرق الرؤية للتراث وللمنهجية (الاركونية).

ما الرابط بين التراث والمزرعة؟ وماهي علاقة المناهج بالاسمدة السامة؟ ولماذا تم اختيار هذه الاستعارة للتعبير عن الموقف تجاه المنهجية الاركونية؟
التراث عبارة عن مزرعة (لم يتم توضيح هل هذه المزرعة مهجورة ام ان هناك بقايا بعض المزروعات الجافة؟) هذه المزرعة/التراث جاءها(اركون) وبإعترافه بالمنهجية الغربية ولكن للأسف لم يأت ليزرعها او ليحصدها بل جاء للأسف ليخضدها بالتجربة الغربية ولكن هذه المرة للعبث بالجينات والاحماض النووية على مستوى الاصول , واستخدام الاسمدة الكيماوية السامة على مستوى الفروع.
المزرعة هي عبارة عن قطعة ارض قابلة للبيع والمتاجرة فهل التراث كذلك؟ في حين إن المزرعة عبارة عن ملكية خاصة لفرد معين(إلا في الحالات النادرة) في المقابل لا يمكن وضع التراث ضمن ملكية فردية إلا إذا كانت هناك رؤية جديدة تطرحها هذه القراءة (المحرمية) تجعل التراث ملكا ً لفئة معينة دون بقية الفئات و تمنحها كامل الحقوق في التأويل وقراءة التاريخ بعين ٍ واحدة وبالتالي تصادر هذا الحق عن بقية الفئات .المزرعة تشير كذلك الى امكانية الاستخدامات المتعددة السيئة والجيدة لمالكها وهنا نكتشف بأن التراث قابل للتلوّن والتعدد في الاستخدامات شأنه في ذلك شأن المزرعة. ولكن هل نستطيع التعامل مع التراث ومنتجاته كما نتعامل مع المزرعة ومنتجاتها؟ اقصد هل نستطيع إلغاء الجانب الغير مرغوب فيه من المخزون التراثي كما يتعامل المزارع مع مزروعاته, بحجة انها غير مفيدة من الناحية المادية, وبالتالي يجب الغائها ؟

تختلف الاصول اذن عن الفروع من حيث تعامل المنهجية(الاركونية) معها كما ترى القراءة(المحرمية), ف الأصول يتم العبث بها بالجينات والاحماض النووية, يعني ذلك بأن هذه الاصول لا تشترك مع اي اصل ٍ آخر, فهي منفردة, جوهرانية, ثابته, في حين ان البحث التاريخي يؤكد لنا ان (جينات) هذه الاصول تشترك بنسبة ٍ او بأخرى مع مختلف الاصول السابقة عليها. في الواقع لا توجد (جينات) تنفرد بها اي اصول دون ان تشترك في ذلك مع الاصول السابقة عليها. انها العملية التاريخية المستمرة والمتواصلة. والعبث هنا يظهر لنا بأنه لا توجد منهجية واضحة في التعامل(الاركوني) مع هذه الجينات والاحماض النووية.
اذا كان التعامل مع الاصول يتم بالعبث بالجينات فإن التعامل مع الفروع يكون بالاسمدة الكيماوية والسامة تحديدا ً. من الواضح ان الاسمدة هنا هي المناهج(الاركونية) وهي تعني في هذا السياق ان هذه الاسمدة تغذيّ الرؤى بالاسمدة السامة.

من بركان الى كهف مهجور:-

تستمر القراءة(المحرمية) في عرض الاستعارات والرؤى ففي الفقرة اللاحقة للفقرة السابقة نجد ان الفكر الاستشراقي عبارة عن بركان ساهم الفكر الاركوني في اندفاع الحمم الهجائية منه على العقل العربي. لقد كان هذا البركان خامدا ً ثم جاء الفكر الاركوني وساهم في اندفاع هذه الحمم, فالفكر الاركوني في هذه الحالة عبارة عن باعث من ضمن بواعث عديدة لهذا البركان. وفي هذه الرؤية اختزال للفكر الاستشراقي - كما سبقت الاشارة – الى عامل سلبي حارق, يدمر كل شيء امامه, ويصهر ما يواجهه. متناسيا ً في ذلك ان للبركان نتائج ايجابيه عديدة مثلما هو الحال في الفكر الاستشراقي, فهو(البركان/الاستشراق) يساهم في تخصيب الارضية المجاورة له, والقريبة منه او التي يمر من خلالها,والتراث العربي الاسلامي شاهد على ذلك برغم كل ما يقال عن الفكر الاستشراقي من سلبيات واخطاء. وهذا البركان الاستشراقي الحارق بممارساته هذه لا يريد ان يتواصل مع الشرق وتقديم الخلاص الغربي له بل يريد اظهاره بمظهر الكهف المهجور, كما ترى القراءة (المحرمية). كيف تتم هذه العملية؟ كيف يتم تحويل التراث العربي الى كهف ٍ مهجور؟ من يقوم بهذه العملية؟ هل التعددية المنهجية قامت وما تزال تقوم بهذه العملية أم أن من يرفضون هذه التعددية يقومون بهذه العملية؟

ثمة الكثير من الافكار والالفاظ الغير موضوعية في هذه الفقرة,وهي بكل وضوح تكشف عن اخفاق تحقق فعل القراءة المحايدة والموضوعية التي تمت عنونتها في مطلع القراءة(المحرمية).

في نهاية هذه القراءة الاشكالية لن نتحدث عن نهاية لهذه القراءة بل نتحدث عن امكانية بداية او بدايات للقراءات الموضوعية والمعرفية البعيدة كل البعد عن الاسقاطات الذاتية. ف هل هناك امكانيات لهذه القراءات في السياقات العربية والاسلامية المعاصرة ؟ وهل هناك امكانية قدوم هذه القراءات من خلفية دينية فقهية مذهبية حاولت ان تظهر للمتلقي على إنها قراءة موضوعية؟

No comments: