Wednesday, October 24, 2007

طرق الخلاص بين الدين والعلمانية

" إن مفهومي (العلمنة) و(الدين) هما مفهومان ابعد ما يكونان عن الوضوح والبلورة. وبالتالي فهما غير فعاليّن. وما نقوله عنهما عادة لا يشكل خطابا ً علميا ً وانما خطاب اجتماعي. ونحن نعلم انه يوجد اختلاف كبير بين هذين النوعين من الخطابات. ذلك انه يفترض في الاول ان يسيطر على الثاني, ويبين آليات اشتغاله وتركيبتة. إن هدف الخطاب العلمي يكمن, بشكل خاص, في تبيان ان المجتمعات البشرية بدون استثناء تهدف , اولا ً وقبل كل شيء الى انكار الارضية الحقيقية لوجودها. بمعنى آخر , فإنها تهدف الى تقنيع حقيقة القوى التي تتحكم بمصيرها التاريخي عن طريق تغطيتها بواسطة قوى ملائمة لذلك(أي ملائمة لعملية التموية والتغطية على الواقع (الحقيقي)" ( [1] ).


تحديدات مفهوميه:-

من المهم جدا ً,لحظة الحديث عن مفاهيم, ملتبسة, وغير محددة, ان نحاول الاقتراب من بعض المحاولات المنهجية التي حاولت ان تضع تعريفات متماسكة تقريبا ً لهذه المفاهيم.

ما هو الدين؟

سؤال ُ مربك, بقدر ما هو ضروري, وملحّ, وخاصة في هذه الفترة الحرجة. فهو مربك اولا ً لبداهة هذا المفهوم لحظة الحديث اليومي, او حينما نتحدث بشكل ٍ تحليلي, يهدف التقصيّ, و يبتغي التساؤل. وهو ملحّ وذلك لمحاولة توسيع المفهوم, بدل تضييقه, او حصره, في نظام ٍ عقائدي واحد فقط, وبالتالي نفي كل ما يختلف مع هذا (النظام) الديني او ذاك.

نحاول الحديث هنا, عن تعريف ٍ للدين, ينطبق على جميع الديانات, من اكثرها بدائية الى اكثرها تطورا ً وتعقيداً, كما يقول (دوركهايم),لذلك ينبغي ان نبحث عما هو مشترك بين الديانات المعروفة جميعا ً,وبالتالي نسقط من حساباتنا تلك الافكار والمعتقدات التي يختص بها دين ٍ دون آخر.

يرى (اميل دوركهايم) الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي(1917-1858) , بأن كل المعتقدات الدينية, تنضوي على خصيصة ٍ عامة, فهي تفترض تقسيما ً لكل الاشياء , المنظور منها والغيبي, لزمرتين: مقدس , ودنيوي.ً
وبناء ً على هذا التعريف, وهو في الواقع, يمثل ردة فعل, على تعريف (جيمس فريزر) الانتربولوجي والبريطاني المعروف( (1941-1854, " فإننا ينبغي ان نفهم الدين, على انه عملية استرضاء وطلب عون قوى اعلى من الانسان يعتقد انها تتحكم بالطبيعة والحياة الانسانية. وهذه العملية تنضوي على عنصرين, نظري, والآخر تطبيقي عملي. فهناك اولا ًالاعتقاد بقوى عليا, يتلوه محاولات لإسترضاء هذه القوى. ولا يصح الدين-حسب تعريف (فريزر)- بغير توفر هذين العنصرين, ذلك ان الاعتقاد الذي لا تتلوه ممارسة هو مجرد لاهوت فكري, اما الممارسة المجردة, عن اي اعتقاد فليست من الدين في شيء". برغم العنصرية الواضحة, في التعريف الاخير, من حيث انه يحصر الدين, في الديانة المسيحية فقط, في حين ان هذا التعريف لا ينطبق على اديان ٍ عدة واسعة الانتشار, لا تدور معتقداتها حول ارواح او آلهة,و لا تلعب فيها هذه الذوات, والكائنات,الا ادوارا ً ثانوية.مثل البوذية التي تنطلق من فكرة رفض الإله, فهي نظام اخلاقي بدون مشرّع, وايمان بدون إله.ف البوذي يعتمد على قواه الذاتية, دون الحاجة للتساؤل عمن خلق العالم.

فالمعتقد الديني بشكل ٍ عام, هو معتقد لجماعة ٍ معينة من الناس, يقتصر عليها ويميزها عن غيرها من الجماعات, ونتيجة ً لهذا المعتقد فان الأفراد يشعرون بالترابط فيما بينهم, داخل وحدة اجتماعية معينة.

ف الدين حسب تعريف (دوركهايم), "هو: نظام متسق من المعتقدات والممارسات التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي وتحاط بشتى انواع التحريم. وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين والعاملين بها في جماعة معنوية واحدة ".( [2] )

ينبغي الوقوف هنا , عند نقطة ٍ مهمة جدا ً, الا وهي ان المقدسات التي يشير اليها (دوركهايم), لا تقتصر على المجردات والغيبيات, لأن مفهوم القدسي, يمكن ان يشتمل على الموضوعات المادية والمعنوية في آن واحد. فهو يرى بأن ما يميز المقدس عن غيره, هو تغايره المطلق عن الدنيوي." ف تاريخ الاديان من اكثرها بدائية الى اكثرها ارتقاء عبارة عن تراكم من تجليات الحقائق القدسية, ليس ثمة انقطاع لإستمرار الظهورات الإلهية, بدءا ً من تجلي القدسي في شيء ما كحجر ٍ او شجر, وانتهاء ً بالتجلي الاعلى الذي يمثل لدى المسيح بتجلي الله في يسوع المسيح" كما يقول (مرسيا إلياد). في كتابه (المقدس والدنيوي) الصادر في عام ((1956.( [3] )

ولكن متى يصبح بإمكاننا القول ان افكارا ً معينة, جاز لنا ان نطلق عليها اصطلاحا ً بأنها (دين) ؟

ثمة مكونات اساسية لما يمكن ان نطلق على افكارا ً معينة بأنها دين. ف هناك مكونات اساسية للدين (اي دين) , واخرى ثانوية. سنأتي على بعضها بإختصار ٍ شديد.

تنقسم المكونات الاساسية لثلاثة اقسام : المعتقد ,والطقس , والأسطورة.( [4] )
في حين تنقسم المكونات الثانوية الى اخلاق وشرائع.

لا يمكن ان يأتي المعتقد, كشأن فردي , شخصي, فهو جمعي بالضرورة, ولذلك فهو يتطلب ايمان عدد كبير من الافراد به, والا اندثر وانتهى. من هنا نستطيع ان نفهم الاسباب التي جعلت مؤسسي الديانات واصحاب الفلسفات الكبرى للتبشير والدعوة لإعتناق افكارهم ومبادئهم. لذلك يتألف المعتقد من افكار ٍ واضحة الى حد ٍ ما , تأتي هذه الافكار على اشكال ٍ مختلفة, وطرق متعددة. وذلك بهدف حفظها , من قبل اكبر عدد من المعتنقين لهذه الاعتقادات.

اذا كان المعتقد الديني يرسم صورا ً ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوالم المقدسة فإن الطقس يأتي , كترجمة سلوكية لهذا المعتقد. نتسائل احيانا ً , لماذا لم تتحول بعض الافكار والتي كان لها تأثير كبير على العديد من الفاعلين الاجتماعيين, لماذا لم تتحول الى دين؟ على مر التاريخ نجد ان بعض الحركات الفكرية, والتيارات الفلسفية, قد استقطبت الكثير من الاهتمام, ولكنها لم تستمر لفترة طويلة من الزمن. بل انتهت بعد فترة غير طويلة من نهاية مؤسسيها, مما يجعلنا نتسائل, حول اسباب هذا الانهيار لبعض هذه التيارات الفلسفية. ربما من اهم الاسباب التي جعلت بعض الافكار والفلسفات تندثر , وفي المقابل نجد غيرها مازالت مستمرة وباقية, ان الطقس المقنن الذي يتم تدارسه عبرالاجيال, ومحاولة وضعه في تنظيرات, بل ومحاولة خلق مبررات , واسباب متباينة,لضرورته, ونفي ما عداه, كل ذلك وغيره يرسّخ احقية بعض المعتقدات, في الاستمرارية, ويرسخ كذلك عدم وجود اية اهمية للمعتقدات المختلفة. وللتدليل على هذه الفكرة الاخيرة : لنأخذ الوطنية كمثال, وكيفية ترسيخها بشكل ٍ يومي ودوري كل صباح, نجد ذلك واضحا ً في تلك الطقوس اليومية التي تمارس حسب اختلاف الامكنة, وتباين الازمنة, ولكن الشيء الثابت هو كيفية ترسيخ هذه الفكرة, وغيرها, بشكل ٍ طقسي , ويومي, يصاحب ذلك العديد من الفعاليات المختلفة.

عندما تتوافر العناصر السابقة, في نظام ٍ فكري او فلسفي ما, فإن ذلك لا يعني باكتفائه, أو انه قد اصبح دينا ً, بل ثمة شروط اخرى مهمة اساسية, ينبغي ان تتوافرفي هذه الانظمة الفكرية مثل الاسطورة.

برغم الالتباس الحاصل حينما يذكر هذا المفهوم الاخير , وخاصة حين الحديث عنه , بوصفه مكونا ً رئيسيا ً من مكونات الدين(اي دين). وبرغم المؤلفات الكثيرة, والتي تبحث في هذا المفهوم وتشابكه مع العديد من الدلالات الاخرى, الا اننا هنا , ومنعا ً للإطالة, سنأتي على ذكر ٍ بسيط ومختصر لهذا المفهوم.( [5] )

يختزل الدين في خطاباته المتعدده, ابعادا ً مختلفة, وهو (الخطاب الديني) يقوم بذلك بهدف التأثير على المتلقين عن طريق اكثر من اسلوب. تأتي الاسطورة هنا , كمفردة تختزل العديد من الدلالات الايجابية والتي تضع الخطاب الذي يستخدمها في مستوى عال ٍ من القدرة على التأثير.

يمكننا تعريف الاسطورة , بأنها "حكاية مقدسة مؤيدة بسلطان ذاتي"([6]), ومعنى كونها تمتلك سلطانا ً ذاتيا ً, اي ان هذه السلطة التي تمتلكها , تكمن في بنيتها الداخلية, وليس نتيجة ً لعوامل خارجية, من ذلك اسلوب صياغتها , بل وكيفية مخاطبتها للجوانب الانفعالية الغير عقلانية في الكائن البشري.

فالاسطورة الى جانب امتلاكها, لصفات ٍ ذاتية, داخلية, تتصف بأنها من الادب الرفيع , فهي تتحدث عن آليات الخلق الاولى, وعن كيفية, واسباب, نشوء الثنائية الكونية الازلية: الخير والشر. فهي لا تكتفي بأنها تتحدث عن بعض الاحداث , بل انها مصدر لرؤية ٍ جديدة , ومختلفة, للكون, ولأسباب نشوئه.

لذلك لا يخلو اي دين, من بناء ٍ اسطوري, يضعه في مكانة عالية, ورفيعة, غير قابلة للمحاكاة والاتيان بمثلها. حتى وان تعددت المسميات, وتباينت الرؤى حول هذا النوع من الحكايات والقصص, التي تحكي لنا عن تواريخ ماضية, واحداث سابقة.

من المكونات الثانوية للدين , ( هذا لايعني بأي حال التقليل من اهميتها, بل انها مرتهنة للسياقات الاجتماعية والتاريخية بشكل ٍ كبير ). نقصد بذلك الأخلاق والشرائع. في البدايات الاولى للدين(اي دين) , لا تتبلور اي الاخلاق والشرائع, الا بعد فترة غير قصيرة, من نشوئه.( [7] )
من الواضح تاريخيا ً, ان هناك ارتباطا ً كبيرا ً, بين الدين والاخلاق , ولكنهما في المقابل, ثمة تمايز فيما بينهما, يجعل من الممكن انفصال واحدهما عن الآخر , او ارتباطهما , ايضا ً بشكل ٍ وثيق.
اذا اردنا ان نضع تعريفا ً تقريبيا ً للأخلاق فإنه بإمكاننا القول انها: قواعد وممارسات تنظم سلوك الافراد تجاه بعضهم, وهي تنشأ لحل المشاكل الناجمة بين الافراد. فالاخلاق, حسب هذا التعريف التقريبي , هي شأن دنيوي صرف , ناتج عن التفاعلات اليومية المباشرة للكائن البشري, وليست ناتجة عن تعليمات او اقتراحات قادمة, من الدين , كمنظومة شمولية ( حسبما حال بعض الاديان) , الا ان ثمة علاقة معقدة تنشأ بين الدين والاخلاق , حتى ليخيّل لنا انهما متلازمان , او ان الاخلاق نتاج طبيعي للدين, او جزء رئيسي منه.

هذه هي بإختصار ٍ شديد, المكونات المفاهيمية للدين, وهي كما رأينا, مفاهيم عامة, اي انها لا تقتصر على دين ٍ معين, يختص بمثل هذه المكونات عن غيره, او يحتكرها. قد تختلف, نوعية وحجم المحرمات, من دين ٍ لآخر , ولكنها في العمق, تحاول ان تضع بعض الحدود والحواجز,وتنشيء بعض المحرمات.
وكما هو واضح, انه لاتوجد تعريفات واضحة ومتفق عليها للدين, ذلك لأن هذه المفاهيم تنتمي للعلوم الاجتماعية, الغير ممكنة الحصر , والتحديد.
من المهم جدا ً القول بأن ما يعنينا من الدين هنا, هو تلك المنظومة المعقدة, من الاعتقادات واللااعتقادات, اي انه يثبت اعتقادات معينة , في حين يقصي او ينفي اعتقادات اخرى. وهو في ذلك, يسعى لخلق طريق لخلاص الكائن البشري, سواء ً على المستوى الدنيوي او الاخروي, يتلخص هذا الطريق, في اتباع (الاقتراحات) المرسومة سلفا ً, من قبل النصوص الدينية, و هذه الاقتراحات, متشابهة في جميع النظم الدينية, مع اختلاف طفيف في كيفية الممارسة, مما يجعلها تلتقي في طريق ٍ واحد مع الاخذ في الحسبان عند البعض, مصدر هذه الاقتراحات.

ما هي العلمانية؟

دار جدل, معرفي وايديولوجي, كبير, وبشكل ٍ خاص في (العالم العربي والاسلامي) حول هذا المفهوم. نرى احيانا ً بأن هذا الجدل ناشيء عن تاريخ المفهوم, و مكان نشوئه, والنتائج التي ادت نتيجة ً لإتباع هذا المفهوم, من نقد ٍ للدين, بشكل ٍ معرفي, داخلي.
لقد نشأت مواقف متباينة, فيما يخص هذا المفهوم, وربما من الممكن حصرها في ثلاثة مواقف, بارزة :اولاً: الرفض لهذا الموقف ونتائجه. ثانيا ً: الحذر من الخوض فيه. ثالثا ً: ضرورة العلمنة.
فاذا تجاوزنا , هذا الجدل(برغم اهميته), وركزّنا, على الاسس التي تقوم عليها العلمانية, مع بعض التوضيحات الضرورية, والمهمة حول هذا المفهوم, فإن بإمكاننا القول, بأن (الاسس الفلسفية للعلمانية)([8]) , وربما الاساس الاهم في العلمانية, هو (القول بأسبقية العقل على النقل). وجعل الفكر الذي يكتسبه الكائن البشري, مسؤولا ً مسؤولية ً كاملة, نتيجة ً لأفعاله.
فإذا اردنا ان نقيم, مقارنة بين العلماني وغير العلماني, نستطيع القول, بأن الاول هو ذلك الكائن الذي يتخذ من الاعتبارات العقلية, الاساس الاول والاخير لحظة اتخاذه للقرارات, في حين ان الاخير(الغير علماني), يتخذ من الاعتبارات الاخرى(دينية/ نصية واجتماعية), مسوغا لقرارته اليومية.
من المهم جدا ً القول هنا , بأن العلمانية, ليست ديانة تدخل في تنافس, مع الاديان الاخرى, ولكنها موقف فكري, يضع العقل كأساس ٍ اول لكل شيء, ولا يرضى عنه بديل. ويجعل النص كتابع ٍ للعقل.
وهي الى جانب ذلك , لا تعني الالحاد(لا توجد نظرة سلبية عن الالحاد هنا) , بأي شكل ٍ من الاشكال, فهي لا تهدف إلغاء الدين, او نفيه, بقدر ما تهدف الى تنقيته من الكثير من الشوائب, ومعظم الاضافات التي الحقت به, عبر التاريخ, وذلك من خلال سلوكيات , او اقوال وفتاوى الفقهاء, او ممارسات المؤمنين به.

استمرار حالة اللاحسم:-

اتخذت حالة اللاحسم , او وضعية التأرجح هذه , بين قطبي الثنائية, العقل او النقل, او الروح والمادة, وغيرها من الثنائيات, اتخذت هذه الحالة, وضعيات مختلفة, ومسميات متعددة. نجدها احيانا ً تحت مسمى(الجمع) كما هو حال (الفارابي) , الذي نجده واضحا ً في كتابه (الجمع بين رأي الحكيمين) (المقصود بالحكيمين هما افلاطون وأرسطو) , وكذلك نجد هذاالمسمى, لدى (ابن رشد) , حيث انه يستخدم هذا المسمى في كتابه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) , كذلك نجد لدى المفكر والفقيه الحنبلي(ابن تيمية) , نفس المعنى وان كان تحت مسمى ً مختلف , فهو يستخدم مفردة (الموافقة) , لوصف نوعية العلاقة بين مفهومه للمعقول ومفهومه للمنقول في كتابه(موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) , وان كانت نبرة اخضاع الاول للأخير متضمنة في العنوان.
في حين اننا نجد هذه الرغبة في الجمع او التوفيق, متضمنة لدى بعض الادباء والمفكرين مثل (التوحيدي) , ونجده لدى فيلسوف ك (ابن سينا) , ونجد ذلك ايضا ً لدى جماعة (اخوان الصفاء) في قولهم بضرورة الجمع بين الفلسفة اليونانية و الشريعة الاسلامية للحصول على الكمال , عوضا ً عن الاقتصار على مجال ٍ واحد.

لا تقتصر حالة التأرجح هذه على المفكرين والادباء العرب القدامى, بل هي ظاهرة موغلة في القدم, وهي ايضا ً لا تقتصر على المجال الفلسفي فقط , بل اننا نجدها ايضا ً في المجال الديني.
تأتي التوفيقية في العمق, كمحاولة للتوفيق بين ما هو منطقي عقلي واضح البرهان, وبين ما هو شعوري باطني(غنوصي).

نجد حالة اللاحسم , او التوفيقية, كما اصطلح عليها فيما بعد([9]), حينما حدثت المواجهة بين العقل الهيليني(الاغريقي) والتقليد الديني العبراني في القرون السابقة للمسيحية, والتي نشأت عن الحاجة للتوفيق بين العقل والايمان. كانت هذه المحاولة التوفيقية , على يد (فيلون) , الذي حاول التوفيق بين النص الديني(التوراة) , والفلسفة اليونانية والتي تمثل الحقيقة الكونية, كما يقول (فيلون) نفسه.

من هنا نجد ان هذه الآلية , موغلة في القدم, وشائعة الانتشار, والسبب في رأي كاتب هذه السطور هو: انها كانت حاجة ضرورية, تهدف لتجاوز بعض الافكار , عن طريق التوفيق بين المتناقضات, ومحاولة الاخذ من كل مجال ٍ معرفي , بما يخدم الوضع القائم آنذاك.لقد واصلت هذه الآلية التوفيقية, ظهورها , واستمراريتها , في المجال الفكري , والفلسفي, العربي المعاصر, وذاك في عهد (محمد عبده) , ومن كان في عصره, وزمانه.
من الواضح, ان هناك ظروف زمانية, ساعدت في, ازدهار هذه الحركة الفكرية, وان كان البعض قد حاول المضّي لما هو ابعد من ذلك , وذلك عن طريق تبنيه, للعلمانية ,كوسيلة فكرية, تصلح الاوضاع السائده في ذلك الوقت, الا ان التراجع عن العلمانية, كان من نصيب هذه الافكار, والرؤى.مما جعل التوفيقية, ك طريقة مريحة ولكنها غير مجدية, للتغيير, والخروج من الاوضاع السائده,

ثمة ثلاث طرق, او اختيارات, من الممكن للكائن البشري ان يسلكها ليعدّل, او ليغيّر من اوضاعه الحياتية,ألا وهي: الدين, العلمانية, او التوفيق بينهما.
لقد تم التعامل مع الخيار الاول(الدين) , منذ ازمنة بعيده, وهذا التعامل, انتج العديدد من الايجابيات والسلبيات المرافقة, وهي نتائج طبيعية, اذا اخذنا في ذلك السياق المنتج لهذه النتائج, من نصوص, ووقائع متغيّره, وافهام مختلفة. وهذه النتائج, هي نتائج تاريخية, مرتبطة بأزمنتها, وامكنتها, اي انها غير قابلة للتعميم.
في حين نجد ان التوفيقية, وهي حالة من اللاحسم المستمر, قد تم استهلاكها, وقد انجزت في وقتها الشيء الكثير من الجدل والنقاش, ولكنها في المقابل, لم تستطع ان تتجاوز التأثير الكبير للنص الديني, وهو ما جعلها اسيرة ً لرؤية مركزية نصية, تنبع من النص الديني لتشمل الافكار الاخرى.
في المقابل, نجد ان العلمانية, حسب التعريف السابق, هي الخيار الذي لم يتم اختباره, ووضعه على المحك,بشكل جاد, ومنهجي, وخاصة ً في (العالم العربي والاسلامي) , وذلك بسبب التشويه الايديولوجي, الذي صاحب, وصولها, او لحظة استيرادها. من المهم الاشارة هنا, تجنبا ً لفهم ٍ غير مقصود, بأن العلمانية, ليست جديدة كممارسة, وتعريف, ولكنها تأخذ طابعا ً جديدا ً على المستوى المفاهيمي.
تحاول العلمانية ان تجعل من العقل ارضية ً ضرورية, للتعامل مع الوجود,ومحاولة تأويله, وكيفية التعامل معه. وهي على هذا الاساس, لا يمكن ان تلتقي, او تتوافق, مع الدين, بشكل ٍ نهائي. والسبب في ذلك ان الدين, بشكل عام, يتخذ النص كمرجعية اولى, واخيرة.فهو(الدين), يرفض او يقبل كل ما يتناسب مع النص فقط.
من الضروري هنا, الحديث عن كونية العقل, وعالميته, ونسبية الدين, ومحدوديته. ومعنى هذه الاشارة الاخيرة, ان العقل, كأساس ٍ ضروري للعلمانية, من الناحية المعرفية, قابل للتطبيق , في نتائجه, ونظرياته, قابل للتطبيق على مختلف الازمنة والامكنة (انظر العلوم الطبيعية: الرياضيات, الفيزياء,الكيمياء,الاحياء...).
ما نريد قوله هنا, او التركيز عليه, في هذا الموضع, هو ان التفسير العقلاني, والرؤية السببية, للوجود. وآليات سيره, وكيفية النظر للنصوص, وقراءتها, يعتبر ضرورة وجودية, لا مفر منها, وان تلك المحاولات الساعية, لإضفاء البعد الديني, على الحوادث الوجودية, اليومية, هو ما يمكن تسميته:
ب( نفي العقل).
وهذا النفي, لم يكن بلا نتائج مصاحبة, فهو(النفي), بقدر ما يضع الكائن البشري, في مجال ٍ واسع من التأويلات, والتأويلات المضادة, الا انه في العمق, يضع هذا الكائن نفسه, وبمحض ارادته, يضعه, في مجال المنفعل, المتلقي, الغير قادر على المساهمة في فهم آليات الوجود, واسباب سيره, وبالتالي يضع نفسه في خانة, العجز,وعدم القدرة على المقاومة, او اخذ الاحتياطات اللازمة, لمواجهة اي حدث كوني.(انظر التفسير الغير علمي للأحداث الطبيعية: زلازل,اعاصير,... وغيرها).

ان التفسيرات الدينية السائدة لهذه الاحداث الكونية الطبيعية, هي في عمقها, تطرح امامنا,وبكل وضوح وجلاء , نوعا ً من الازدواجية, الغامضة الانتقائية: ففي حين ان هذا الكائن البشري, يستخدم العلاقات السببية, المنطقية, الواضحة, في حياته المباشرة وتعاملاته اليومية, فإنه وبمحض ارادته, ينفي هذه العلاقات السببية, حينما يتعلق الامر بالوجود والكون, والاحداث الطبيعية.وهي (التفسيرات الدينية السائدة) , في رأي كاتب هذه السطور, تساهم بشكل ٍ واضح ومباشر, في إبطاء , او ايقاف , مساهمة الكائن البشري , في هذه المحاولات المستمرة , للإرتقاء بذاته, ومحيطه, لتجعله في حالة ٍ من الجمود والتخلف. وتجعله في حالة ٍ من الانتظار الدائم ,والمستمر , لما يحدث من اطراف ٍ وقوى , متعددة. فكل شيء يحدث, حسب التفسيرات الدينية بالطبع, يقع في خانة, الحتمّي, والغير قابل للمقاومة, او التغيير, في افضل الاحوال. وحسب هذه النظرة, فإن ما يجب فعله, هو التعامل مع الاحداث بعد وقوعها, وليس قبل ذلك. بمعنى انه بالرغم من التقدم الذي تحرزه, العلوم الطبيعية, يوما ً بعد آخر, في مجال التعامل, مع الكون, وآليات تفسيره, وكيفية التعامل معه, فإنه ونتيجة ً لهذه التفسيرات, فإنه يجب الانتظار, لما يحدث.

No comments: