Tuesday, October 23, 2007

التسمية والاقصاءات الضمنية.

يخضع نظام التسمية أو إعادة التسمية كغيره من الأنظمة للعديد من الاكراهات والشروط, الصريحة والضمنية. تحاول هذه الورقة طرح فكرة مفادها: إن التسمية واستراتيجياتها المتعددة, لا تخلو في معظم الظروف والأحوال من أهداف ٍ وغايات. قد ترتبط هذه الأهداف والغايات, بدوافع دينية أو حضارية او تاريخية. يتم النظر لهذه الظاهرة هنا نظرة تاريخية انتربولوجية عامة.ذلك ان هذه الظاهرة لا تقتصر على مناطق جغرافية وحضارية معينة, و لا تنحصر في فضاءات ٍ معرفية محددة.

تجليات الظاهرة :-

المقصود بنظام التسمية او إعادة التسمية : هو ذلك النظام المعقد , او المتشابك, والذي يهدف الى تسمية شيء معين, او إعادة تسميته. ف علم التسمية هو فرع من أبحاث المعاجم, ينطلق من مفهوم ٍ معين من الواقع (شيء , فكرة , ميزة , حركة, الخ) ويسأل عن تعيينها(او اسمها). انه الاقتراب المعاكس لما يسمى بعلم الدلالة , الذي ينطلق من الكلمة ويبحث عن معناها وعن المفهوم الذي تدل عليه هذه الكلمة.
في علم التسمية يبحث اللغويون في الأمور الزمنية التي تدور حول مجرى وأسباب اختلاف دلالة أسماء الأشياء والتشابكات والتعقيدات الباعثة لهذه الاختلافات.
يأتي تشابك هذا النظام وتعقيده, من تلك الخلفيات والمرجعيات الباعثة, والأهداف المنتظرة من التسمية او إعادة التسمية. تمارس بعض العوامل التاريخية دورا ً متعمدا ً في إظهار او اختفاء بعض الأسماء مثلما هو الحال لدى ظهور ديانات ٍ جديدة, او انتصار طرف ما في معركة ٍ معينة , او تماهيا ً مع إحدى الشخصيات المؤثرة.
كيف يمكن الحديث عن تلك التسميات التاريخية او إعادة التسميات, المتعلقة بفضاء ٍ جغرافي معين , او بحقل ٍ معرفي محدد , او بكائن ٍ بشري مخصوص؟ دون التساؤل عن مغزى وهدف هذه التسمية او تغييرها.
نستطيع ان نقول في البداية انه لا توجد تسمية بريئة ومحايدة. ذلك ان لكل تسمية أسس وغايات, وهي بالتالي تمارس مجموعة من الاقصاءات والتهميش.
تكشف التسمية, او تغيير التسمية, عن وجود رغبة في التملك والسيطرة , رغبة التملك الرمزي. وهي تفصح عن رغبة اخرى اكثر عمقا ً. انها رغبة المحو والالغاء , ذلك ان التسمية او تغييرها , عبارة عن خلق ٍ آخر للحاضر, وإلغاء لعنصر ٍ مهم من عناصر الماضي الفردي والجماعي وللأجيال القادمة الا وهو عنصر الذاكرة.
لا يمكن ممارسة هذا الالغاء دون الحديث عن الاطار المعرفي الذي تخلقه التسمية الجديدة , فلكي تكون التسمية الجديدة مقبولة من الفضاء الاجتماعي والمعرفي والمفاهيمي للمتلقين, ينبغي ان توحي التسمية الجديدة بالجوانب السلبية للتسمية القديمة , وان تشوه تلك الصورة الموجودة في اذهان المتلقين للتسمية السابقة. تأتي التسمية كنتيجة للوضعية التي يتمتع بها صاحب التسمية الجديدة , ف لا يمكن الحديث عن ضعيف ٍ يغير من تسمية منطقة ٍ جغرافية معينة ويبدلها بتسمية ٍ اخرى تتناسب ومفاهيمه ورؤاه.
نجد الكثير من المصطلحات المتداولة والتي تحتاج الى كشف ٍ وفضح , لما تمارسه من إقصاء وتهميش للأقليات وللمختلفين من النواحي الدينية والعرقية واللغوية. ف اذا نظرنا لمصطلح (العالم العربي والاسلامي) او (الوطن العربي والاسلامي) , نجد انه يحتاج الى كشف ٍ وتعرية , لما يتضمنه من إقصاء ٍ متعمد من قبل اصحاب التسمية, لكل ما يختلف عن هذا المصطلح العريض, ولكل ما يسكن تحت هذه التسمية من تنوع ٍ وتعدد.
من الواضح من التسمية انها تشير الى فضاء ٍ جغرافي وديني ولغوي محتكر فقط من قبل مفاهيم وأطر معرفية تنتمي لنظام ٍ عقائدي واحد يسمى الاسلام , ولغوي واحد يطلق عليه اللغة العربية, في حين ان هذه التسمية ما تلبث ان تكشف عن زيفها, ورغباتها المتعددة. ف بنظرة ٍ تاريخية نجد ان مصطلح (العالم الاسلامي), قد بدأ يحل محل دار الاسلام والذي جاء حسب استخدام القدماء كنقيض ٍ لمصطلح دار الحرب, والذي يوحي للمتلقي المنغمس في هذه الرؤى والايدلوجيات, بضرورة التعبئة والتجييش ضد هذا المختلف والمسمى بالنقيض, أي دار الحرب كما هي التسمية الايدلوجية القديمة.
ف بحسب هذه التسمية والسياق الذي نشأ فسه هذا المصطلح, لا يمكن الحديث عن أطر مفاهيمية عقائدية مغايرة للإطار الديني الاسلامي, وكذلك للنظام اللغوي العربي, انها(التسمية) , تشير وبشكل ٍ رمزي الى تلك الثنائية التي لا تقبل المغايرة والاختلاف. في حين اذا نظرنا نظرة معاصرة لهذه التسمية نجد انها تقصي العديد من الاعراق والاديان واللغات, وتهمّش هذه الفضاءات المتنوعة والمتعددة. ف تحت هذا المصطلح تقبع الكثير من الديانات والاعراق واللغات , موغلة في القدم , بل ونجدها اقدم من الاطار المعرفي الديني الاسلامي واللغوي العربي. على المستوى الديني نجد ان تحت هذا المصطلح تنضوي الكثير والعديد من الديانات كالمسيحية واليهودية والهندوسية وغيرها , وعلى المستوى اللغوي نجد ان الاكراد والامازيغ والطوارق وغيرها. انها تتحدث وتعتقد اعتقادات مغايرة لما يوحي به المصطلح.
تغيير التسمية يشير الى رغبة في محو وإلغاء الذاكرة الجماعية للمتلقين , والى بلورة عقول الاجيال اللاحقة بما بتناسب وايدلوجيا السلطة التي غيرت هذه التسمية.نجد ذلك واضحا ً في تلك التغييرات التي حدثت في بداية الظهور للدين الاسلامي في الفضاء الاسلامي , سواء ً حول الفضاءات الجغرافية ام الحقول المعرفية , ففي الفضاء الجغرافي نجد انه وبفضل هذا الخطاب تم تغيير (يثرب) الى (المدينة) , وفيما يخص الحقول المعرفية نجد انه تم إلصاق تسمية (الجاهلية) على تلك الفترة التاريخية السابقة على ظهور الدين الاسلامي , في حين ان ثمة عناصر ومعطيات تنتمي لما قبل الاسلام وجدت فيما بعد في النظام الاسلامي ذاته. إضافة لذلك ان بعض الاشخاص والاماكن قد تمت اعادة تسميتهم بعد ظهور وانتشار الدعوة الاسلامية.
ليست هذه المسألة حصرية , على فئة ٍ عرقية او حضارية او دينية معينة , فهي ظاهرة انتربولوجية عامة , لا تفتصر على نظام ٍ دون آخر, ففي تلك الفترة التي تكونت فيها ما يعرف حاليا ً بالولايات المتحدة الامريكية , وإبان الاجتياح الذي تعرض له سكان امريكا الاصليين , أي اولئك البشر القاطنيين في تلك المنطقة الجغرافية , ونجد انه وبهدف محو الذاكرة الجماعية و ما تعرضت له هذه الجماعات والقبائل, قد تم تغيير اسناء المناطق الجغرافية , حتى ان قد تم تغييرهم من (سكان امريكا الاصليين) الى (الهنود الحمر) , كما رأتهم السلطة المستعمرة او كما ارادت ان يصلوا للأجيال اللاحقة, هذا فضلا ً عن تلك التغييرات فيما يتعلق بالفضاءات الجغرافية المتعددة.
في فضاء ٍ جغرافي آخر , وعلى ضوء معطيات ٍ تاريخية اخرى , نلاحظ بكل وضوح ٍ وجلا ء , ضرورة وربما خطورة تغيير المسميات بما يتناسب والوضع الجديد, نلاحظ انه لدى قيام ما يسمى(بالدولة الاسرائيلية), عمدت الى إعادة تسمية اسماء مناطق متعددة , واماكن مختلفة اضافة الى التملك المادي للفضاءات الجغرافية. لقد تم تغيير ذلك الفضاء الجغرافي الممتد والمسمى قديما ً(قبل اعادة التسمية) ب (فلسطين) الى (اورشليم) , وذلك ليتناسب ومفاهيم الوضع الجديد. لماذا تمت عملية تغيير التسمية؟ ألا يكفي الامتلاك المادي للفضاء الجغرافي ؟ في الواقع ان اعادة التسمية تستمر لأجيال ٍ قادمة , وتضمن تثبيت السيادة الفعلية وبشكل ٍ خاص خاص في الادبيات النتجة من قبل الفاعلين الاجتماعيين الجدد في الفضاء الجغرافي. ان مسألة تغيير التسمية في هذا السياق مسألة تاريخية , ف (ارشليم) حسب بعض الروايات , هي المدينة المقدسة لليهود منذ القرن العاشر قبل الميلاد, ومعنى إعادة التسمية بهذا الاسم الموغل في التاريخ معناه التواصل الرمزي والمستمر مع تلك الفترة التاريخية بكل ما تتضمنه من امتلاك ٍ مادي وبناء ٍ حضاري. ان اعادة التسمية او تغييرها بشكل ٍ عام يساهم بشكل ٍ كبير في الاتصال بذلك الموروث القديم والمسمى بالتراث , انها تساعد على بعثه واحيائه ليقوم بدور ٍ كبير ومهم ومواز ٍ لما تقوم به المؤسسات العسكرية والاعلامية وغيرها.
ثمة ظاهرة تتعلق بهذه المسألة : الا وهي ذلك التكرار في بعض الاسر لأسماء معينة , وتوارثها لأجيال ٍ متعاقبة من جيل ٍ لآخر. تستمر هذه الظاهرة اذا كان الجيل السابق او الشخص المسمى به قد حقق شيئا ً يذكر في عصره , او كان صاحب سمعة متميزة في مجتمعه , وبشكل ٍ خاص اذا اشتركت هذه الشخصية في البعد الديني فإنها تجد اصداء كبيرة وتتابعا ً تاريخيا ً بعيد المدى.
تكشف لنا هذه الظاهرة عن وجود رغية دفينة في الاحتفاظ بهذه الذكرى , او مواصلة الخط السلوكي الذي جاء به الجيل السابق , ويبدو ان هذه الرغبة لن تتحقق الا عن طريق هذا الحنين الذي يتجلى في مواصلة هذا التكرار للإسم على طول الخط التاريخي. تقودنا هذه الظاهرة الى تلك (الموضة) التي سادت لدى البعض وانتشرت في اوقات الازمات , وهم في الواقع يتزايدون بشكل ٍ مستمر, وهي التسمية بالاشخاص الذين انجزوا انجازات ٍ تاريخية فعلية, غيرت مجرى التاريخ, وادت الى بروز الحضارة لتي ينتمون اليها. من هنا نجد ان اسماء معينة قد انتشرت في الفترة الزمنية التي مرت وما تزال تمر بها ما تسمى الامة العربية والاسلامية من تقهقر وتراجع على جميع الاصعدة. تحيلنا هذه الظاهرة الاخيرة , الى محاولة إيجاد نوع من التعويض , في الاجيال القادمة عن طريق التعلق بالاسماء التي انجزت اشياء رائعة. وهي تكشف في الواقع عن تلك النمطية التي يتم التعامل بها مع الحضارات والمستقبل , ف من النادر جدا ً في هذه (الموضة) اسماء علماء وفلاسفة , ولكننا في المقابل نجد اسماء زعماء حرب, وقادة معارك. لكأن الحضارة تبنى وتزهر بالقوة والعنف فقط.

الخاتمة :-

تعتبر ظاهرة التسمية او اعادة التسمية , ظاهرة موغلة في القدم , أي انها ليست جديدة , وهي كما سبق القول , لاتنحصر في حضارة معينة دون اخرى. انها ظاهرة انتربولوجية عامة. وهي مرتبطة بالعوامل التاريخية والسياقات التي تمر بها الفضاءات الجتماعية للأمم والحضارات. تساهم التسمية بتغيير نظرة الفاعليين الاجتماعيين للعالم ورؤيتهم له. فهي تعمل بعمق وببط في آن على تجزئة الكون لتلك الثنائية الضدية التي لا تحتمل المختلف والنقيض , انها تقوم بغرس المحرمات عن طريق بعض التسميات ومحاربتها , وتنمية بعض الرؤى عن طريق الاكثار من التسميات ومصادرها.


علي بن سليمان الرواحي
ملاحظة : حصلت هذه الرؤية على المركز الثاني في مسابقة المنتدى الادبي للعام 2006.

No comments: