Tuesday, October 23, 2007

خطابات "جونو".

انتهى الاعصار "جونو" وبقيت آثاره المادية والنفسية والمعنوية, وعلى إثر هذه الآثار نشأت مفاهيم جديدة , وتكشّفت مظاهر مختلفة للمجتمع العماني , لم تكن متوقعة ادهشت جميع المراقبين للحدث .

ثمة خطابات رافقت هذا الاعصار, فهو (الاعصار) لم يأت وحيدا ً, اعزل , بل كان وصوله المفاهيمي سابقا ً على وصوله الواقعي. وفي المقابل ثمة خطابات اختفت او توارت خلف الاحداث وخلف الخوف الطبيعي من نتائج هذا الاعصار.

تحاول هذه الورقة التطرق للخطابات المصاحبة للإعصار "جونو" , والخطابات التي اختفت او ظهرت فيما بعد او جاء ظهورها من مصادر غير فاعلة بشكل ٍ اساسي كالمواطنين , او وسائل الاعلام المختلفة.

في البداية لم يصل "جونو" الى المناطق العمانية المتوقعة , الا وصولا ً مفاهيميا ً, وهذا الوصول المفاهيمي جعل بعض الخطابات تتصدّر الواجهة الاعلامية اليومية , مما جعل هذه الخطابات تمارس بشكل ٍ غير مباشر نوعا ً من الهيمنة على اذهان وسلوكيات المتابعين لهذه الخطابات والمنتظرين لنتائجها الواقعية المتسارعة.

تصدّر خطاب الارصاد الجوية , بوصفه الخطاب الاقرب للواقعية , والاكثر ميلا ً نحو التحقق , تصدر الواجهة الاعلامية , والواجهة التصديقية , فهو الخطاب الوحيد الذي تتحرك على إثر نتائجه جميع التوقعات والجهات المعنية. برغم انه يبدأ بأنه خطاب تنبؤي, من الممكن ان يصيب او يخطيء , الا ان الوسائل التي يستخدمها ,والطرق التي تجعله يصل لكل بياناته ومعلوماته , هذه الوسائل هي التي وضعته في اول قائمة الخطابات الصادقة تقريبا ً , والممكن حدوثها. لم يصل هذا الخطاب الى نتائجه برغم تنبؤه وتكراره لهذه الصفة , لم يصل الى نتائجه بوسائل يقينة بحته , وهو في المقابل لم يصل اليها عن طريق خداع او تزييف الاحداث للمتابعين له , بغرض جذبهم والسيطرة عليهم.
لقد استخدم هذا الخطاب التنبؤي وسائل علمية , من اجهزة رصد , ومتابعة لكل ما تأتي به.
ثمة فعل هام جدا قام به مصدر هذا الخطاب, ف الى جانب التحذيرات والتوقعات التي اقتربت من مرتبة التحقق الا ان الجانب الهام هو عقلنة الاعصار ومفهمته اي جعله يصل للمتلقي بشكل مفاهيمي في الدرجة الاولى. لقد سعى هذا الخطاب الى محاولة السيطرة المفاهيمية على المتلقين وهو ما يكشف ان هذا الخطاب بوصفه خطابا ً علميا ً او اقرب للعلمية او بكلام ٍ اصح بوصفه خطابا ً يستخدم الوسائل والطرق العلمية قد استحوذ على مجريات الاحداث. بل ولقد صاغها بطريقة ٍ مباشرة وعلى إثر هذه الصياغة تحركت بقية الخطابات والاحداث.
بعد هذه الهيمنة المفاهيمية لخطاب الارصاد الجوية التنبؤي جاء خطاب لجنة الدفاع المدني وهو في الواقع خطاب مهيمن وتابع في نفس الوقت. فهو مهيمن على بقية القطاعات التي كان يسيّرها والتي كانت تحت سيطرته من اجهزة امن وقوات مسلحة , وهو من جهة اخرى تابع لما يأتي به خطاب الارصاد الجوية. ف خطاب الدفاع المدني يضع خططه وبرامجه بناء ً على ما يتوصل اليه خطاب الارصاد الجوية. لم يكن خطاب الدفاع المدني هو الخطاب الوحيد الذي يتحرك بناء ً على الخطاب الرئيسي بل ثمة خطابات اخرى جاءت كخطابات ٍ تابعة له منها قطاع الخدمات والكهرباء وغيرها.
لم تكن هذه الخطابات بالرغم من اهميتها ككل , لم تكن تحاول السيطرة على الاعصار او الوقوف في مساره بل كانت تحاول جاهدة ان تتعقبّ نتائجه وتسارع في تحذير القاطنين في خط سيره , لتقليل اكبر عدد ممكن من الخسائر الممكنة.
كشفت هذه الخطابات وحضورها وفاعليتها, كشفت الامكانيات الواسعة التي يستطيع الكائن البشري ان يسخرها للحفاظ على مكتسباته ومنجزاته. كما كشفت الامكانيات الكبيرة التي توصل اليها العقل البشري من اختراعات ٍ وتقنيات لمحاولة الحد من الكوارث الطبيعية , لا يعني الكلام الاخير ان ننسى الخسائر البشرية والمادية التي تسبب بها الاعصار, ولكن ذلك يعني انه بفضل هذه التقنية ومنجزات العقل البشري امكن لهذا الكائن ان يقلل الى حد ٍ كبير من هذه الخسائر ونتائجها. لم تستطع الخطابات التي لم تتخذ الوسائل العلمية والتقنية لم تستطع ان تجد لها مكانا ً مناسبا ً واساسيا ً في مثل هذه المواقف والاحداث. لقد انزوت و اختفت او اصبحت بمثابة اضافات لاحقة , وفي مقدمتها الخطاب الادبي والفقهي. ف اذا ما نظرنا الى الخطاب الادبي نجد انه يأتي في معظم الاحوال كشاهد على ما يجري, يقوم بعملية سرد وجداني للحدث وآثاره المختلفة. في حين ان الخطاب الفقهي كان الى وقت ٍ قريب بمثابة العمود الفقري للرؤية والتفاسير لمثل هذه الاحداث, وهو في هذه الرؤى لا يستطيع الخروج من ذلك التقسيم الديني الشهير المانوي بين الخير والشر او الثواب والعقاب , فكل ما يأتي من احداث ٍ وظواهر طبيعية يجب التعامل معها , كما يرى الخطاب الديني, كعلامة من علامة الغضب الإلهي او الثواب. هذه الرؤية الاخيرة توارت واختفت هذه المرة ومن المحتمل ان تكون هذه هي البداية الفعلية لهذا الاختفاء , وظهور العلم وتفاسيره في اقرب الظواهر للكائن البشري , هذه الظواهر التي تفعل الكثير في هذا الكائن ومنجزاته. لم يكن هذا الاختفاء خارجا ً عن التاريخ واحداثه وعن العلم وتاريخه. ف بعد ان كان الفقه هو العلم الاول بإمتياز وهو الذي ترتكز على اسسه جميع الرؤى والتصورات ؛ ها هي دائرته تضيق يوما ً بعد الآخر. وهذه الدائرة الفقهية التي اصبحت ضيقة لم تخلفّ فراغا ً في الرؤية ذلك ان الخطابات التي تتخذ الوسائل العلمية والطرق التقنية قد اخذت تحل محل الخطاب الديني, بل واخذت تقدم الحلول والامكانيات التي تساعد الكائن البشري على الخروج من نتائج مواجهته مع الظواهر الطبيعية.
الى جانب هذه الخطابات التي ظهرت والتي اختفت في نفس الوقت كانت هناك خطابات موازية مهمة وهي في عمقها خطابات تنتمي للفكر العلمي اي لذلك الفكر القادم من العلم وتاريخه وتطوره, ومنها الخطاب الصحي التحليلي الذي يحذر من الاوبئة والامراض.
لايمكن فهم الاحداث بمعزل عن الخطابات والعكس صحيح ايضا ً, ذلك ان الخطابات ونسبة تداولها وقابلية تصديقها هو حدث دال في حد ذاته, فهذا الحدث يعبر عن تلك الرغبة التي تسيطر على المتلقي في مواجهة الحدث من خلال مفاهيم وطرق واقعية.
كان لبعض الخطابات حضور ضمني, موغل في التخفي وفاعل بشكل ٍ كبير في الاحداث ونتائجها, تجلى هذا الخطاب في تلك المساعدات وذلك التكافل والاتحاد في ما بين الجميع, بغض النظر عن الفوارق والتصنيفات البعدية. لم تكن المساعدات فيما بين الجميع بناء ً على توجيه ٍ من اي مصدر أو اي سلطة, سواء ً أكانت هذه السلطة دينية ام سياسية, بل كانت هذه الافعال نتيجة للحس الانساني العام والمشترك, هذا الحس الذي يتناسى الفروقات وبصورة ٍ طبيعية, يتناساها في الاوقات العصيبة من حياة الكائن البشري.




علي سليمان الرواحي
Al_rawahi_ali@hotmail.com

No comments: